في أحضان بحيرة ميشيغان العظمى..

شواطئ داون تاون ووجه الشبه بينها وبين شواطئ العاصمة عدن

"تذكرت مياه عدن الدافئة وشواطئها الرملية الذهبية، بل وما تمتلكه بلادنا بشكل عام من شواطئ جميلة لو تم استثمارها لكانت عامل جذب سياحي للسواح من أرجاء العالم وعلى مدار العام"

الباحث الجنوبي علي صالح الخلاقي في الوسط متن القارب في بحيرة ميشيغان - المصدر

د. علي صالح الخلاقي
كاتب ومؤلف تأريخي له العديد من الاصدارات التأريخية والشعرية والأدبية يكتب لدى صحيفة اليوم الثامن
ميشيغان

الـ10من أغسطس 2022 م، كان يوماً مميزاً ورائعاً، بروعة الأشخاص والمكان والأجواء.. كانت الرحلة مفاجئة بالنسبة لي، وكنت قد احتطت بأخذ بدلة رياضية وسروال سباحة، كما قيل لي، وظننت أننا سنذهب إلى بحيرة صغيرة من البحيرات الكثيرة التي تنتشر في أرجاء شيكاغو، ويُسمح فيها بالسباحة وممارسة رياضة المشي والجري ..

لكن الوجهة كانت نحو شواطئ داون تاون، التي يكتظ فيها الناس في أيام الصيف الدافئة، ويقضون أوقاتهم في ممارسة رياضة المشي أو الجري أو لعب كرة القدم أو  كرة السلة أو كرة الشبكة، أو  السباحة أو مجرد الاستمتاع بالمكان حيث مياه بحيرة ميشيغانالعظمى  التي ظننتها بحراً لما تزدحم في مياهها من سفن النقل والمراكب السياحية الكثيرة ، وقد أدهشني يوم أمس منظر عشرات من السفن الشراعية المتنوعة الأحجام وهي تتجمع قبالة شاطئ داون تاون، وكأنها في مهرجان أو سباق و هو ما أثار انتباه الصديق جبر شلوة، الذي كان له الفضل في تنظيم هذه الرحلة..

وكانت المفاجئة الأكثر من رائعة إننا عندما وصلنا إلى الشاطئ، عرفنا أن رحلتنا ستكون بحرية، وعلى قارب سياحي خاص بصديقنا الدكتور عمر بن غالب الذي وصل بسيارته يجر ورائها قاربه الأبيض اللون لينزله في مرسى خاص بالقوارب واليخوت السياحية، وكان برفقته الشخصية الاجتماعية المحبوبة صديقنا الشيخ صالح علي حسن(أبو حسن)، فيما وصلت قبلهم بقليل مجموعتنا المكونه من: جبر شلوه وأخيه نبيل شلوه وعمه عبدالله شلوه وأبو وضاح القعيطي وأنا وتوقفنا في مكان الانتظار المتفق عليه.

بعد رسو الزورق وفصله عن السيارة التي تم إيقافها في الأماكن المخصصة لوقوف السيارات وفق مواقف محددة بخطوط لا يمكن تجاوزها، وباتجاه موحد يتيح للمواقف استيعاب كثافة السيارات التي تقصد المكان، ودون ذلك غرامات مالية ملزمة.

صعدنا إلى الزورق مع أمتعتنا التي احتاط بجلبها زملاء الرحلة من مأكولات ومشروبات وفواكه، وتحرك بنا الدكتور عمر يقود الزورق لنبدأ رحلتنا في جولة بين ناطحات السحاب في قلب شيكاغو (داون تاون) ، ورغم أنها بالنسبة لي جولتي الثانية في هذا المكان الجميل ، بعد الجولة السابقة مع صديقي جمال الهلالي، إلا أنها تميزت في كونها بقارب صغير وخاص بنا (شلة الرحلة) وليس ضمن فوج سياحي عام، وبعد أن استمتعنا في رحلة الذهاب والإياب بين الأبراج السامقة، التي لا يمل المرء من تكرار مشاهدتها من صفحة المياه التي تتوسط الداون تاون، عاد بنا الدكتور عمر إلى عمق الماء حيث أفقه الممتد بمحاذاة داون تاون، وكان يتعمد أحياناً الإسراع بقيادة الزورق فيرتفع بنا بحيث نشعر وكأنه سيقذف بنا إلى صفحة المياه من حولنا لولا تشبثنا بالمقابض على جنبات الزورق،  ومع تكرار هذا (المقلب) تعودنا عليه ولم نعد نتهيب مثل تلك السرعة التي يصعد فيها الزورق وكأن الأمواج تتقاذفه، فيما لا وجود للأمواج الكبيرة في مياه البحيرة، لكنها حركات القبطان (د.عمر)، الذي أراد اختبار قدراتنا على امتصاص مثل هذه المقالب .. والحمد لله إننا اجتزناها وتغلبنا عليها بدرجات متفاوتة، بما في ذلك صديقنا (الشاب الرشيق أبو وضاح) ذو السبعة والستين عاما  من العمر، كما يشهد بذلك جواز سفره، رغم عدم اعترافه بذلك ويؤكد أنه أصغر بخمسة أعوام ودليله ما هو مدون في شهادة البكارلاريوس الحائز عليها عام 1984م من كلية التربية –جامعة قطر. 

تناولنا وجبة الغداء المكونة من شندويشات مختلفة باختلاف مصادرها (البيوتية)، كانت هناك ثلاثة أنواع منها جميعها لذيذة، وحضرت بينها أقراص جافة من (الفدرة) اليافعية، واستغربت وأنا أرى (أبو حسن) ينفرد لوحده بالإمساك بقرص (فدرة) كامل وبدأ يتعامل معه فيما تقاسمنا نحن أنواع الشندويتشات، ولأنني أحب تلك  الأقراص الجافة من الذرة ، التي أفضلها على غيرها من أنواع الخبز، فقد طلبته أن يتكرم بشقفة من القرص، فأخرج من كيس بجانبه قرصاً آخر تقاسمته أنا والدكتور عمر واستأثر ابو وضاح بقرص آخر ، واضطررنا إلى ترك ما بين أيدينا من سندويتشات لذيذة، لنستمتع بأكل الفدرة التي تناولناها مع الشاهي، فقد كان هناك دبة شاهي أحمر وأخرى مع اللبن، فضلا عن الماء والمشروبات الغازية المبردة والفاكهة. 

لم نفرط بالأكل حتى حافة الشبع التام، لأننا عقدنا العزم على السباحة ، بعد أن استقر بنا الزورق في وسط الماء مقابل الشاطئ، بين العديد من الزوارق واليخوت التي أوقفها أصحابها مثلنا للاستماع بالسباحة أو الجلوس عليها لتجاذب أطراف الحديث بين أفراد العائلات أو الأصدقاء. 

أنا من هواة السباحة حد الولع، وأعشق البحر، وحين أدخل للسباحة أشعر بمتعة لا تضاهيها متعة، فهي الرياضة البدنية الجامعة  المحببة إلى نفسي، وأسبح لمسافات طويلة أغير فيها من طريقة السباحة إلى الأمام أو إلى الخلف أو الاستلقاء على الظهر أو الوقوف بشكل مستقيم مع تحريك الأرجل والأيدي، كل ذلك لكي لا أشعر بالتعب وأمكث أطول فترة بالماء.

وهكذا كنت أول من يقفز من الزورق إلى قاع الماء ، وكانت المياه معتدلة البرودة وتنعش الجسم في الجو المشمس الحار في وضح النهار، وما أن تتالى دخول الآخرين حتى علت أصواتهم تصرخ من برودة الماء، ويتهمونني بخديعتهم، لكنهم سرعان ما تكيفوا، ومثلما كنت أول من دخل الماء ، كنت  آخر من خرج منه، فيما كان بقية الزملاء يسبحون ثم يصعدون الزورق للاستراحة والعودة للسباحة. 

ومن محاسن هذه الرحلة أولاً: أن نبيل شلوة قد كسر عقدة الخوف، حيث دخل للسباحة في البدء خائفاً وبعد تردد حذر وكان قد أخذ معه سترة النجاة ملتفة حول صدره، وما أن اطمأن حتى تركها وبدأ يسبح بشكل طبيعي، بعد أن وجد التشجيع منا جميعاً.  وثانياً: أن الأخ أبوحسن الذي اكتشف نفسه في هذه الرحلة بعد سنوات طويلة لانشغاله في العمل قد تردد من دخول الماء في البدء، بحجة أن له سنوات طويلة منقطعا عن السباحة،  وظل يراقبنا ويصورنا،  حتى دخل الماء بعد الحاح منا، والجميل أنه كشف عن صلعة لمّاعة تنافس صلعتي، وكان يغطيها دائماً بلبس كوفية الرأس، فبدا أكثر وسامة ، وكان ذلك مبعث سعادة لي ، وتنفست صلعته الهواء بعض الوقت خلال فترة مكوثة في الماء.   

مكثنا نسبح قرابة ساعتين تقريباً، ثم صعدنا إلى الزورق  واستأنفنا أكل بعض السندويشات والفاكهة لأن السباحة قد استهلكت ما أكلناه  من قبل، ثم تبادلنا النكات والطرائف  وتناول أقداح الشاي..وكان هم الوطن الحاضر الأكبر، وكانت فرحة الجميع كبيرة بتصفية تمرد الأخوان في شبوة،  وتبادلنا الآراء حول ما بعد هذا النصر والحفاظ عليه واستكمال حلقاته بتحرير وادي حضرموت والمهرة ..

ومع أفول خيوط الشمس الذهبية التي تنعكس بلمعانها على صفحة المياه الصافية غادرنا البحر نحو الشاطئ وانتظرنا دورنا لرسو الزورق في نفس مكان الانطلاق ، ولعل ما يجدر ذكره أن الدخول والخروج لا يسمح إلا باتجاه واحد للسفن والزورارق  إلى مرفأ الرسو، فقابلتنا إشارة المرور الحمراء وانتظرنا دورنا حتى لمعت الإشارة الخضراء، لنجد أنفسنا في نقطة انطلاقنا، ولكن في هذه المرة لإخراج الزورق وربطه بسارة الدكتور عمر، وهناك توادعنا ، شاكرين له كرمه بتهيئة الفرصة لنا في هذه الرحلة الممتعة التي لا تُنسى.. 

وقبل أن نغادر تذكرت مياه عدن الدافئة وشواطئها الرملية الذهبية، بل وما تمتلكه بلادنا بشكل عام من شواطئ جميلة لو تم استثمارها لكانت عامل جذب سياحي للسواح من أرجاء العالم وعلى مدار العام..