إرث الجنوب العربي الثقافي...
الأغنية الوطنية الجنوبية ودورها في استنهاض الثورات العربية ضد الاستعمار
شكل البعد الثقافي بكل تجلياته حصنا منيعا لحماية الوجود واستمرارية الانتماء الذي يمثل المحرق للوجود الانساني والهوية. و«لم تكن الأغنية الوطنية الجنوبية في عدن ولحج في فترة الخمسينات بعيدة عن محيطها العربي
إن دور الأغنية الوطنية يسهم في دعم مبادئ الهوية الوطنية وتثبيتها لدى المجتمع، وقد عبر الشعراء والفنانين في الوطن العربي عن تفاعلهم مع أحداث الثورة وتطلعاتها بصيغ تتراوح بين الفنية حينا والجمالية حينا آخر، باعتباره شارك في أحداث الثورة المباركة واكتوى بنارها فأنشد أغان معبرة عن تجربته الثرية، وذلك بعرض نصوص هذه الاغاني التي تتغنى بالوطن وحبه، وتشيد بمقومات الشخصية الوطنية.
لقد ، فقد ارتبطت بتاريخ الثورة العربية في "مصر والجزائر والفلسطيني" في عهد الثورة العربية ضد الاستعمار البريطاني والعدوان الاسرائيلي والاستعمار الفرنسي وكانت تلك الأغنية تدعو إلى المقاومة ضد الاستعمار البريطاني بكل أشكاله.
في الجنوب العربي المحتل شكلت عاصمة السلطنة العبدلية في عاصمتها لحج المحروسة خاصرة الإبداع الجنوبي الفني والموسيقي وكان لرائد تلك المسيرة الفنية الفنان الكبير حسن عطا.. بطل الأناشيد ومقارع الاستعمار، ثلة من الفنانين الجنوبين الذين يمثلون صفوة المجتمع أفضل تمثيل ابتداءً بالأمير أحمد فضل القمندان وعبدالله هادي سبيت والفنان فضل محمد اللحجي وانتهاءً ببطل الأناشيد والمربي الفاضل المبدع حسن عطا «حسن محمد إبراهيم عطا الله» ومن بينهم كوكبة من المبدعين والعلماء ورجال الفكر والسياسة.
وكانت ألحان حسن عطاء مطرزة بالكثير من العطاءات والابداعات الغنائية واللحنية سواء في مجال الأغنية العاطفية، أم الأناشيد الوطنية التي اشتهرت ونالت إعجاب الجمهور وحبهم لفنه الراقي.. أكثر من نصف قرن حياة حافلة بالعطاء ليس فنياً فقط بل وتربوياً فقد كان مربياً فاضلاً ومعلماً ناجحاً تتلمذ على يديه العديد من الكوادر والأجيال الذين غرس فيهم روح الوطنية والانتماء للوطن والتشبث بالأرض والتمسك بالعزة والكرامة والحرية.. مناضل وطني ساهم في مختلف مراحل الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني بصوته شادياً بأروع الأناشيد الثورية التي أشعلت روح الحماس في جماهير الشعوب من أجل التحرر والاستقلال.
وتشير المعلومات في كتاب «نهر العطاء الدائم» إلى أن الفنان حسن عطا كانت بدايته الفنية في سن مبكرة وعمره 17 عاماً عندما بدأ يلحن الأناشيد العربية والمحلية، ومن تلك الأناشيد التي قدمها مع طلابه في المدرسة المحسنية بحوطة لحج عام 1945م نشيد كشفي مأخوذ من أحد الكتب السورية التي وصلت إلى المدرسة المحسنية بواسطة البعثة التربوية المصرية وكان زميله المعلم عبدالله عبدالقيوم، هو من اختارها لحسن عطا وتقول الأبيات:
كشاف يا وجه العلا وخفقة العلم
كن للبلاد الأمل والسيف والقلم
في حالكات النوب لا تهب.. لا تهب
واهتف بلاد العرب للعرب.. للعرب
وفي عام 1955م قام بتلحين عدد من الأناشيد المدرسية الشبابية، مثل:
إلى الجهاد زحفنا أسد العروبة جمعنا
الله حقق نصرنا فلتخضع الدنيا لنا
فلتخضع الدنيا لنا
وكان المد القومي العربي قد بدأ يصل إلى مديني عدن ولحج كغيرها من المدن العربية التي بدأت تستشعر بالميل العربي والحب لثورة 23 يوليو 1952م وظهرت تباشير الوعي الوطني توجه دفة المشاعر نحو التحرر والعزة والكرامة، وقد لحن الفنان حسن عطا أنشودة أخرى في عام 1955م، أيضاً من كلمات المربي الفاضل محمد حسن أفندي بعنوان «نشيد الجهاد» تقول في مطلعها:
أنا رمز للجدود أنا شبل للأسود
عشت من أجل بلادي هي قصدي ومرادي
وبعد هذه التجربة مع عالم الألحان والعمل مع تلاميذ المدرسة المحسنية، اكتسب خبرة كبيرة أهلته للانضمام الى ندوة الجنوب الموسيقية والتي جاءت منذ تأسيسها لدعم الثورة الجزائرية، حيث أقامت عدة حفلات فنية في عدن ولحج، كان ريعها لدعم الثورة من جهة ومن جهة أخرى خلق وعي وطني يعمل على تعبئة الجماهير بأفكار الحرية وتطهير الوطن من الاستعمار.
وفي الحفل الذي أحيته الندوة في مدينة عدن الصغرى - البريقة بمناسبة العيد السادس لانتصار ثورة 23 يوليو وبمناسبة تأسيس النقابات الست التي كان يرأسها النقابي عبدالله علي عبيد، قدم الفنان حسن عطا أنشودة «أيها العمال هيا» وهي من كلمات الشاعر صالح نصيب وتقول أبياتها:
أيها العمال هيا
هيا يا رجال
هذه الأرض تنادي والجبال
هيا يا رجال أتبعوا جمال
أيها العمال يا عرب الجنوب
إن نصر الله من نصر الشعوب
فانصروه اليوم ينصركم غداً
حين تخلو الأرض من ظلم العدا
عندما قدم الفنان حسن عطا هذه الأغنية على مسرح «شركة B.P» مصافي عدن، هاجت الجماهير مرددة النشيد وقررت السلطات الاستعمارية في تلك الأثناء اعتقال الفنان حسن عطا، ولكن الجماهير الحاضرة في الحفل منعت اعتقاله وحالت دون تنفيذ أمر الاعتقال وقامت بتهريبه من عدن الى لحج.. وكان حسن عطا «رحمه الله» قبل هذه الانشودة والواقعة الشهيرة، قد قدم أغنية « أخي في الجزائر يا عربي» وهي أيضاً من كلمات الشاعر صالح نصيب وألحان الامير محسن بن أحمد مهدي وقدمها في حفلات دعم ثورة الجزائر في مدينة عدن والحوطة ودار سعد سنة 1956م، وتقول كلماتها:
أخي في الجزائر يا عربي
تحدى فرنسا ولا تهب
فأنت الشجاع وأنت الأبي
عهدناك في الشرق والمغرب
فيا ابن الجزائر إنًّا هنا
سنفدي العروبة بدمنا
فأرض الجزائر من أرضنا
وجيش الجزائر من جيشنا
فرنسا فويل لك من رجال
أرادوا يعيشوا كعيشة جمال
بحرية حقه لا خيال
فهم يا فرنسا أسود القتال
وقدم كذلك أنشودة «ثورة» من كلمات الشاعر صالح نصيب وألحان حسن عطا تقول بعض أبياتها:
باسم هذا التراب والفيافي الرحاب
والجبال الصعاب
سوف نثأر يا أخي
إن في الثورات موتاً
ومن الموت حياة
إن في الثورات نصراً
تسمع الدنيا صداه
إنها ليست خيال
فأسالوا عنها جمال
فهو قهار المحال
وفتى قوميتي .
«أخي كبلوني» عام 1954م من كلمات لطفي جعفر أمان والتي قيلت عندما قامت قوات الاستعمار بالقبض على المناضل الفقيد عبدالله عبدالرزاق باذيب ومحاكمته وقد قوبل هذا التصرف بسخط وشجب بالغ من قبل الشعب، الأغنية من تلحين وأداء الفنان محمد مرشد ناجي:
أخي كبلوني وغل لساني
واتهموني
بأني تعاليت في عفتي
ووزعت روحي على تربتي
فتخنق أنفاسهم قبضتي
لأني أقدس حريتي..
ومن ضمن رواد حركة التنوير ومن بينهم الفنان الكبير الراحل رائد الأغنية الوطنية اسكندر ثابت وقد أسهم بدور هام في مجابهة المستعمر بأغانيه الوطنية المعبرة والتي كانت تذاع من خلال إذاعة صوت العرب ومنها هذه الأغنية:
سلام ألفين للشجعان في الاشعاب والبندر
وعلى صوت العرب قاموا من أجلك
يا شعب الجنوب النصر يهنا لك
حلفت ايمان بالقرآن والخنجر..
لأستاذ علي عبدالعزيز نصر يجسد قوة الشعب وارادته التي لا تقهر في قصيدته الغنائية الوطنية التي لحنها وغنى بها الفنان الكبير محمد مرشد ناجي وتقول مقاطعها:
أنا الشعبُ زلزلة ٌعاتية
ستخمد نيرانَهمْ غضبتي
ستخرس أصواتهمْ صيحتي
أنا الشعبُ عاصفةٌ طاغية
أنا الشعبُ قضاءُ اللهِ في أرضي
أنا الشعب
على قبضةِ إصراري
سيفنى كلُّ جباري
ولن يقهر تياري
أنا النصرُ لأحراري
غداة الحشرِ في أرضي
أنا الشعب
أنا الماضي ... تيقظتُ أرى مصرع آلامي
أنا الحاضر، أحلامي على مفرق أيامي
أنا المستقبلُ الزاحفُ في أرضي
أنا الشعب
ومن النماذج التي تستنهض الهمم وتدعو الشعب لحمل السلاح ومقاومة ظالميه ومحتليه القصيدة الوطنية الغنائية «يا شاكي السلاح» وهي للشاعر الاستاذ عبدالله هادي سبيت وقد حملت أبياتها الثورية والحماسية الكثير من الصور والمعاني الوطنية العظيمة، كما كان لكلماتها القوية ونبراتها الهادرة الأثر الكبير في نفوس الشباب الذين ازدادوا حماساً وشوقاً للالتحاق بصفوف المناضلين والثوار والقصيدة من ألحان كاتبها وصدح بها الفنان أحمد يوسف الزبيدي وتقول:
يا شاكي السلاح شوف الفجر لاح
حط يدك على المدفع زمان الذل راح
يا شاكي السلاح
أرضي والنبي ويل الأجنبي
ديني ومذهبي يأمرني ان أحمل السلاح
يا الله يا شباب آن الاكتتاب
أرضك ملك لك والمغتصب حتماً يزاح
يا شاكي السلاح
مما سبق تبين أن الاغنية الوطنية الجنوبية في لحج وعدن الشاعر الشعبي شاركت في آلام الوطن العربي واكتوى بنار الثورة فتفاعل مع أحداثها، وأنتح شعرا خلد ذكريات وأيام الكفاح المرير ضد الاستعمار وصاغه على شكل أغان وطنية حماسية باحت بالألام وسجلت تاريخ شعب وكفاح، فكان مبدعها الشاعر والمغني في الآن ذاته حاضرا دوما بصوته يرصد المناسبات، ويسجل الأحداث ويصور المعارك والمواقف ويظهر شجاعة وبسالة المجاهدين المغاوير فلم يكن أديبا صناعيا يتفنن في اختيار القوالب الفنية والأصوات الجميلة لكي يؤثر في عواطف الناس، إنما كان يغني ويؤدي الأغاني بطريقة تلقائية وعفوية ويعيش محنة الاحتلال بكل آلامها، وجراحها ويصور إحساس مواطنيه فيذكرهم بأحداث الماضي ليرفعهم إلى الجهاد والتضحية من أجل تحقيق الحياة الكريمةِ.