ورقة بحثية تبحث خطر اليمننة على الجنوب..

الرفض الجنوبي للاحتلال اليمني العسكري في نص "يا سلامي المعطر" للشاعر أبوبكر باسحيم

رقصة الدحيف في محافظة أبين - أرشيف

د. سعيد بايونس
باحث في مؤسسة اليوم الثامن للإعلام والدراسات

المقدمة:    استغلت "اليمننة" حلم التوحد القومي أبشع استغلال, وحاولت تجييرها لصالحها, فكان الدمج بين الجمهوريتين قاصرًا من الناحية القانونية؛ إذ ظلت المؤسسات العسكرية والأمنية والمدنية, تعمل بشكل منفصل وعلى طريقتها, فخلق صراعًا نتيجة التباينات الواضحة بين النظامين والثقافتين.

    كان الطرف الآخر ينظر للجنوب بوصفه مغنمًا راوده حلم السيطرة عليه, وانطلاقًا من الضغائن المتراكمة لديه, لم يكن وطنيَّا من الوهلة الأولى, فلم يستجب للاتفاقيات المبرومة, وحين حوصر قانونيًّا, كشّر عن أنيابه, فبدأت التجاوزات منه بتسريح الجنوبيين, وقتلهم, فضاق الجنوبيون بهذا الأمر ذرعًا, فأعلنوا "فك الارتباط"؛ بسبب الإخلال بإتفاقية الشراكة, فكانت الحرب الشعواء التي بدأها نظام الجمهورية العربية اليمنية على الجنوب, فدكّت هذه الحرب آخر مفاهيم التوحد, فصار احتلالًا بخروج الشريك الآخر في هذا المسمى جوازًا توحد.

   حاول نظام الجمهورية العربية اليمنية, تفكيك البنية الاجتماعية والسياسية والثقافية للجنوب, وقام بطمس الهوية الجنوبية (نهب الآثار, هدم المعالم, تغيير الأسماء, وغيرها). 

 الحرب الغاشمة على الجنوب في صيف العام 1994م, أحدثت هزة نفسية وفكرية في شخصية الجنوبي اقتنع بالدليل القاطع على همجية الطرف الآخر, ومكره وخديعته, وكان الرفض الجنوبي للحرب مستمرًا عبر كل الوسائل الثقافية التي استطاعها الجنوبي (الشعارات, الأغنية, الشعر).

المنجز الشعري للباسحيم قبل الحرب يشير إلى رؤيته وتوجسه, وقد آمن إيمانًا مطلقًا بعدم جدوى هذا الدمج, فالمؤشرات اتضحت له جلية, فقد طرق قضايا مهمة جدًا لمحاولة تحذير الجنوبيين.

التمهيد:

     يتكون النص من أحد عشر بيتًا, قُسِّمَ - لغرض الدراسة والتحليل- إلى دوائر موضوعية تتناغم فيما بينها لجلاء الموضوع الرئيس للنص. وهي محاولة لإكمال ما بدأه د. صلاح مريبش, فقد درس هذا النص في أثناء قرائته لشعر باسحيم, وكان محقًا في وصفه لحيثيات النص, من أنه قيل في "زيجة من الزيجات في منطقة الشاعر (شقرة)، وهي مساجلة شعرية، قالها بيتًا بعد بيت؛ أي لم يرتجلها استرسالا كاملة، ولم يتدخل أحد من الشعراء الحاضرين"([1]), وقد قرأناها مرة أخرى انطلاقًا من أن النص الشعري لا يروي ظمأنا مهما قرأناه مرات, وبمناهج مختلفة؛ لأن الشعر أي شعر يتجاوز اللحظة التي قيل فيها إلى لحظات بغير مسمى.

   النص يمثل قيمة, ليس بجمال صياغته وتراكيبه وصوره فحسب, وبالإطار التاريخي له, ولحظة إنتاجه, فهو نص مقاوم, رافض (واقعًا وصياغة), أما عن زمن النص فقد أنتج في 24 أبريل من العام 1995م, في دحيف زواج صلاح قاسم عبادي في شقرة, وكان الوضع العام مازال مشحونًا بفعل تبعات الحرب الظالمة على الجنوب في العام 1994م, بدأ الدحيف بالتساجل المعتاد (الترحيب), وفي الجولة الثانية (المنزل الثاني) من طقس الدحيف, يقف الشاعر أبوبكر باسحيم بهندامة الأنيق وحزومته القصيرة المتدلي منها عكفتان طويلتان توازيان آخر وصول لحزومته, تعلوه كوفيته الزنجباري المميزة, يمتشق الميكرفون, وأعناق الحاضرين مشرئبة لهذه القامة الشامخة, يختلج فيها صوتان: صوت يتوق لمعرفة موقف الشاعر من الحرب الظالمة, وصوت آخر يتوجس خيفة على الشاعر من انتشار رجال الأمن السياسي في موقع الحفل الدحيفي.

النص([2]):

يا سلامي المعطر خص وان با تعم
ولا شي تفوت البيت وابن الحكم
ولك ما تقوله والمدارة نسم
والربابة بجنبك والطرب والنغم
ولكن يا الهاجس روحت الزهم
يا سميرة ثيابش بال فيها البسم
وجسمش نحل والراس كله ورم
وبعد المربى اكلونش الكدم
وين ذاك الصبا والوجه د ي هوه زخم
ما يفيد الشكا ولا البكا والندم
سرى الليل لا يكتب عليّه قلم

 
 قدامك الناس وانته شوف دي تستخيره
ذي نا ابصره مثلما حيد المعله وصيرة
والقافلة لا سرت رعني معك في السديرة
قول انها ليلة الرحمن ليلة نويرة
لا عود يروح ولا عنبر ولا اروح ذريرة
ماشي معش خير من بعد البسم يا سميرة
وحالتش حال وانتي في الحياه الضريرة
وبقل كله مشوّك من طراف المطيرة 
والثوب دي يرتوح من عنبرش لا مسيرة
نهايته هكذا ذي ما يشاور كبيرة
والا معي عاد في جوفي مسائل كثيرة 

 

الدراسة:

      تم تقسيم النص إلى ثلاث دوائر موضوعية لغرض الدراسة والتحليل, مع التأكيد على أن النص كتلة موضوعية واحدة, ويجب فهمه على هذا الأساس:

أولًا, دائرة الجذب:

يا سلامي المعطر خص وان با تعم
ولا شي تفوت البيت وابن الحكم
ولك ما تقوله والمدارة نسم            والربابة بجنبك والطرب والنعم

 
 

قدامك الناس وانته شوف ذي تستخيره
ذي نا ابصره مثلما جيد المعله وصيرة
والقافلة لا سرت رعني معك في السديرة

قول انها ليلة الرحمن ليلة نويرة

 

     يدلف النص إلى المتلقي من خلال بنية النداء التي نسبها لضميره المتكلم, ثم وصفها بالعطر (يا سلامي المعطر), والتسليم "من خصائص البناء الفني لشعر دان الدحيف، وكثير من قصائد الفلكلور"([3]).

وحاسة الشم في هذا النص حاسة مركزية في الدلالة, كما تلعب الصورة التشخيصية دورًا في جعل السلام كائنًا شاخصًا يتم مناداته (يا سلامي المعطر), وتخييره (خص وإن با تعم), وتوكيل الأمر له (شوف دي تستخيره), ونهيه (ولا شي تفوت البيت وابن الحكم), كما يلعب ضمير المخاطب الكاف دورًا في الدلالة على هذه التشخيصية (قدامك, لك, معك, جنبك). والنهي يأتي مشفوعًا بسبب ما يمثله من قيمة للشاعر تتضح قيمته من خلال التشبيه (مثلما حيد المعله وصيره), و(المعلا وصيرة), ثنائية جغرافية جنوبية تمثل فتحًا جديدًا في سياق النص, ويكسر الثنائية التي فرضتها "اليمننة", التي ثقفتنا على ثنائية موازية كل واحدة تنتمي إلى الجغرافيا, التي تشكل قطبي الدمج, والمستمع لأغنية الفنان محمد عبده زيدي التي كتب كلماتها أحمد سيف ثابت يجد هذه الثنائية بشكل لافت:

يا كحيلة والحواجب: مخا وعمران

يا كعيبة والكواعب: صبر وشمسان

يا ضحوكة والمباسم: تعز وبيحان 

وقلما تخلو أغنية جنوبية في تلك المدة من هذه الثنائية. 

   ثنائية الرمز في (البيت وابن الحكم), خلقت ضبابية في الدلالة, وهما مخصوصتان بالتعريف الذي ضيّق مساحتهما, ومع ذلك نحاول الاستدلال على حقيقة الرمز الذي فرض السياق الخارجي عليه طوقًا يمنعه من التجلي؛ فالرمز "يعكس سياقًا خارجيًّا قمعيًّا يحول دون التصريح"([4]). وهناك محددات تركيبية ودلالية تتآزر معه مثل دلالة الطاعة (ولا شي تفوت), أو الشموخ في الصورة التشبيهية (مثلما حيد المعلا وصيرة), وبهاتين الصفتين (الطاعة, والشموخ), يتجلى الرمز المتمثل في مرجعية جنوبية تتهيأ لقيادة الشعب نحو بر الأمان.

    ثم يفتح للسلام المعطر مساحة الحرية, ويحثه على قول ما يريد (ولك ما تقوله والمدارة نسم), وتطل علينا في النص لفظة القافلة معرفة متأرجحة بين المجاز والحقيقة (والقافلة لا سرت رعني معك في السديرة), وقد اختار موقع المقدمة (السديرة) في ركب هذه القافلة, وبين القافلة والسديرة, تركيب شرطي (لا سرت) بمعنى (لو سرت), يتحقق قوله (رعني معك في السديرة), على شرط تحرك القافلة (سرت), وفي السرى دلالات عدة على وفق الواقع السياسي في تلك المدة, فهل كانت القافلة تعني (ليلة الدحيف)؟ بدليل لفظة (سرت), أم أن الشاعر اتخذها قناعًا يمرر خلاله دعوته للمقاومة, ورفض الواقع المفروض بعد حرب 1994م؟. وختم دائرة المقدمة بالبيت:

والربابة بجنبك والطرب والنغم     قول انها ليلة الرحمن ليلة نويره

  هذا البيت ولد خيبة مؤقتة للمتلقين في ذلك الحفل الدحيفي, رغم ما يشيعه البيت من جو فرائحي (الربابة, الطرب, النغم, ليلة الرحمن, ليلة نويرة)؛ فجزء قليل من المتلقين ظنوا في باسحيم ظن السوء؛ إذ تبادر إليهم أن هذه الفرحة التي رسمها "شاعرهم المقاوم" بداية المهادنة مع السلطة, وإن الحرب كسرت روحه المفعمة بحب الجنوب والحرية, وبالمقابل كان أغلب المتلقين على ثقة في شجاعة شاعرهم وفي صلابة موقفه الثابت.

ثانيًا, دائرة التوتر بين الذات والموضوع:

   إذا انطلقنا من أن الجملة الخبرية موضوعية، والجملة الإنشائية ذاتية، فإننا نجد حضورًا للذات والموضوع, بشكل متناوب خلق توترًا بينهما:

ولكن يا الهاجس روحت الزهم
يا سميرة ثيابش بال فيها البسم
وجسمش نحل والراس كله ورم            وبعد المربى اكلوش الكدم
وين ذاك الصبا والوجه ذي هوه زخم

 
 لا عود يروح ولا عنبر ولا اروح ذريره
ماشي معش خير من بعد البسم يا سميره
وحالتش حال وانتي في الحياه الضريره
وبقل كله مشوّك من طراف المطيره
والثوب دي يرتوح من عنبرش لا مسيره

 

      فلفظة لكن في النحو تعني الاستدراك, ووجودها في السياق ومعطياته خالفت الدلالة النحوية واتخذت دلالة أخرى, واحتلاها رأس الدائرة الموضوعية في نص باسحيم ليس لاستدراك كلام قيل في الدائرة الموضوعية الأولى, بل كانت معدة مسبقًا على وفق بناء الشاعر لنصه من الناحية النفسية للمتلقي (راغبًا, ومراقبًا), فقد مهد في الدائرة الأولى بالسلام ووصف ليلة الدحيف؛ ليشد المتلقين للكلام الذي يريد قوله, لهذا بدأ بلفظة "لكن" التي تجاوزت النحو إلى القيام بمهمة التخلص للولوج إلى الدائرة الثانية, وكانت تجسيدًا للتأثيرية المفعمة من خلال ردة فعل المتلقين التي تكشفت على شكل صراخ وتأوه من الرجال وتطريب (تسييل) وزغردة (محجرة) من النساء, وهذا ما يظهره التسجيل, دالًا على رضا المحيط بثبات الموقف الشعري, وجلدًا للذات, عند بعضهم الذين ظنوا في شاعرهم.

    وهي بذلك تقوم بالوظيفة الانتباهية, "إعلان أو تنبيه أو بيان" (ولكن يا الهاجس روحت الزهم), مخاطبًا هاجسه, وهو منادى وهمي مشخص في صورة إنسان, هذه التعمية تعكس ثقافيًّا أداة القمع التي مورست بعد الحرب. تتراءى الصورة الشمية (روحت الزهم) بارزة؛ لتجلو كل فعل بصري للمنتصر بعد الحرب, ولم يقتنع الشاعر بدلالة "الزهم" للحالة الراهنة للجنوب بفعل الحرب, بل أردف بمعادل يعبر عن نتانة الرائحة الكريهة متخذًا من بنية النفي المكررة وسيلة؛ لتعميق تلك الدلالة (لا عود يروح, ولا عنبر, ولا اروح ذريره), وهذه الروائح (العود, والعنبر, والذريرة), تتناقض حسيًّا مع التركيب الشمي (سلامي المعطر), الذي طل علينا في بداية النص.

   ينتقل النداء من التشخيص (تشخيص الهاجس) إلى النداء الرمزي (يا سميرة)؛ فسميرة رمز للجنوب, والبسم رمز للمنتصر بعد الحرب, وتتدخل حاسة الشم مضيفة رائحة كريهة أخرى جراء تبول الهر(بال فيها البسم), في ثوب سميرة الذي كان نظيفًا ومعطرًا, هنا تتراءى صورة حسية بصرية تكون مصدر لصورة شمية (رائحة البول).

      وفضلًا عن الصورة تشع دلالة التركيب من ثناياه شعًّا؛ إذ يتصدره النداء (يا سميرة), ويتوسطه التقديم والتأخير حين قدّم المجرور المفترض في الرتبة المحفوظة للجملة الفعلية (ثيابش) يكون بالقرب من المنادي للأهمية التي يمثلها "الثوب" المؤشر الحسي الأبرز على حال الوطن (الجنوب), وتأكيدنا على أنه مجرور نابع من شبه الجملة (فيها)؛ لأن الضمير يعود على (ثيابش), كما أن الفعل (بال) فعل لازم, حين نفترض أن الجملة في سياقها المحفوظ (فعل وفاعل .....), هي (بال البسم في ثيابش), هذا التقديم والتأخير يشيء بدلالة الأهمية للثوب كما أسلفنا. ويلعب التكرار لبنية النداء (يا سميرة) والاسم (البسم), دورًا في هذه الثنائية المتقابلة, تحتل سميرة بداية البيت ونهايته, مما يوحي أن سميرة (الجنوب) تمثل بالنسبة للشاعر البداية والنهاية ومساحة محصنة له, رغم عبث الهر (البسم) بها, فبول الهر آني وتحركه محصورًا بوجود راسخ لهذا الكيان العاطفي.

    ثم يستطرد في وصف حال سميرة فضلًا عن "بول الهر", فنراها متجلية من خلال ضميرها المخاطب (الشين), في المحكية اليومية للشقريين, واصفًا حالها الحسي (وجسمش نحل والراس كله ورم), وحالها النفسي (وحالتش حال وانتي في الحياة الضريرة), والمظهر الحسي (نحولها), يبرزه تدني مستوى المعيشة الماثل من التراكيب التقابلية لبنية الصورة التجسيدية (وبعد المربى اكلوش الكدم)؛ إذ يمثل المربى الرخاء - في بنية الصورة - الذي كان يعيشه الجنوب, والكدم يرمز للمعاناة جراء الحرب التي فرضت ثقافة المنتصر حتى في الأكل؛ فالكدم رمز يشير إلى جغرافية المنتصر بعد الحرب, ويمكن إدراجها ضمن ما سماه نورثروب بالنموذج الجدلي الذي "يعتمد على انقسام العالم وتقابل عناصره الثنائية"([5]).

   كما أن التقابلية بين حالين تستطرد في العطف والمعطوف (وبقل كله مشوّك من طراف المطيرة)؛ إذ يشير سياق العطف على حذف يؤكده التركيب المتجلي:

 التركيب المختفي (وبعد البقل الناعم اكلوش .....), يجليه التركيب المتجلي (وبعد المربى اكلوش), كما يلعب التركيب المتجلي (بقل كله مشوّك) دورًا كذلك في جلاء المحذوف, عبر بنية التضاد (مشوك يقابله ناعم), لأن الثنائية المتضادة (الخشونة والليونة) حاضرة في (وبعد المربى اكلوش الكدم). ويمكن جلاء ظاهرة (الخفاء والتجلي) على وفق الآتي:

وبعد المربى اكلوش الكدم     (وبعد البقل الناعم اكلوش)

 

                             وبقل كله مشوّك من طراف المطيرة

كما يذهب التركيب (من طراف المطيرة) إلى ترشيح الصورة معللًا سبب المستعار منه. الحال المتردية التي وصفها الشاعر لوطنه, ذهبت به فنيًّا, لاستنهاض بنية الاستفهام:

وين ذاك الصبا والوجه ذي هوه زخم   والثوب دي يرتوح من عنبرش لا مسيره

تتلاحق ثلاثة استفهامات تجلّى منها الأول, واختفى الاثنان على مستوى المقولة اللغوية, ليس بسبب النحو المتمثل في العطف فحسب, بل بسبب الحالة النفسية للشاعر, التي لم تستطع تحمل هول الموقف (الحالة المتردية للحبيبة)؛ إذ أن العبرة داهمته, وحين أراد مواصلة الألقاء ظهرت الحشرجة في صوته واضحة, وقد كنت حاضرًا وشاهدًا على هذه الحالة, بل أن التسجيل لها يمكن الرجوع إليه لمعرفة ذلك. ويمكن خط البيت على وفق إظهار المختفي حسب المعطيات النحوية, فيكون هكذا:

وين ذاك الصبا؟

ووين ذاك الوجه ذي هوه زخم؟

ووين ذاك الثوب دي يرتوح من عنبرش لا مسيره؟

نلاحظ أن ما بعد التركيب المتكرر (وين ذاك), يتمدد مكانيًّا على مستوى البيت, فالأول جاءت بعده كلمة واحدة (الصبا), والثاني أربع كلمات (الوجه ذي هوه زخم), والثالث سبع كلمات (الثوب دي يرتوح من عنبرش لا مسيره), هذا التمدد المكاني كان يوازيه تمددًا نفسيًّا, دفعت الشاعر إلى العبرة التي لازمت هذا البيت. ولعب اسم الإشارة دورًا في دلالة الاستفهام حين قرن به, فالاستفهام (أين) للمكان والإشارة (ذاك) للبعيد, فتعطيا معًا دلالة (زمانية مكانية) بعيدة تقع في فضاء الماضي.

يحاول الاستفهام إقامة معادلًا موضوعيًّا يتجاوز نفسيًّا الحالة الشعورية الراهنة, وصنع صورة تقابلية مع الصورة السابقة, للمقارنة بين زمنين على وفق ثنائية (الجمال والقبح), فالصبا تشير للجمال, والوجه قد أشار لجماله (ذي هو زخم), والثوب يشير للجمال مضيفًا الرائحية العطرة (العنبر), والرائحة القوية (يرتوح لا مسيرة), فيكتمل الجمال في فضاء الحلم الذي صنعه الشاعر؛ ليقابل القبح المتجلي في لفظة (الزهم, وبول الهر), وفي القبح الجسدي (جسمش نحل, راسش ورم), وفي القبح المعيشي (كدم, بقل مشوك).

ثالثًا, دائرة العتاب والنصح:

ما يفيد الشكا والبكا والندم
سرى الليل لا يكتب عليه قلم

 
 نهايته هكذا ذي ما يشاور كبيرة
والا معي عاد في جوفي مسائل كثيرة

 

    لم يطل الشاعر في استدعاء الزمن الجميل من الماضي تساوقًا مع حالته العاطفية, التي بدأت بالانهيار جراء التذكر له. فعمد إلى لوم من أورثونا هذا الواقع المرير بعد ذاك الزمن مقرر حقيقة (ما يفيد الشكا ولا البكا والندم), وتكرر حرف النفي وتنوع بين (ما ولا), نافيًا ثلاث حالات عاطفية (الشكا, والبكاء, والندم), مؤكدًا على إعمال العقل في السياسة, ففيها تنتفي العاطفة لمن أراد أن يبني وطنًا, هنا يجلي البعد العاطفي للجنوبيين لتعاملهم مع قضية الوحدة القومية, كما افتقدوا إلى خصيصة التشاور (نهايته هكذا ذي ما يشاور كبيرة), ولم يطل في عتابه خوفًا من الرقيب الأمني الذي يقيد كل حركة وسكنة (سرى الليل لا يكتب عليَّ قلم), والشطر الثاني من خاتمة النص تأكيدًا على مواصلة فكرة رفض الحرب ونتائجها من خلال توعية الأجيال بتاريخ الجنوب ومدرسته العريقة في النضال ورفض الظلم, استوحي هذا من تأكيد الشاعر أن للحديث بقية كثيرة, لولا الرقيب (وإلا معي عاد في جوفي مسائل كثيرة).

خاتمة:

    يوثق النص رفضًا مبكرًا للحرب التي شنت على الجنوب في صيف 1994م, بوصفها تعدي على اتفاقيات الشراكة الجغرافية بين طرفين, وتذهب بهذه الشراكة نحو مصطلح جديد هو "الاحتلال"؛ لطغيان طرف وإزاحة طرف آخر في هذه الشراكة, كما يؤسس النص لمرحلة جديدة ترفض الطغيان, وفرض ثقافة وطمس أخرى, تماشيًا مع "اليمننة", التي بدأت في منتصف السبعينيات, ويجلي وعيًا جنوبيًّا, بأهمية خلق ثقافة جنوبية توازي ثقافة "اليمننة", ويبشر بمقاومة جنوبية تعتمل في الواقع وظهر ترميزها جليًّا في النص.

مظان الدراسة:

  • البنى الأسلوبية في شعر الغربة, سالم عبدالرب السلفي, دار أمجد, الأردن, ط1, 2018م.
  • ديوان شعر الدحيف (تراث مدينة شقرة), د. سعيد بايونس, د. سالم السلفي, الأستاذ وضاح العزاني, مكتبة الوراق, عدن, ط1, 2021م.
  • قراءة في نص شعري, د. صلاح مريبش, دون مطبعة, ط1, 2020م.

 

*******************************

الورقة البحثية تنشرها مؤسسة اليوم الثامن بالتنسيق مع مركز التدريب والتأهيل في المجلس الانتقالي الجنوبي..

[1]) قراءة في نص شعري, د. صلاح مريبش, دون مطبعة, ط1, 2020م, (4/116 - 117).

[2]) ديوان شعر الدحيف (تراث مدينة شقرة), د. سعيد بايونس, د. سالم السلفي, الأستاذ وضاح العزاني, مكتبة الوراق, عدن, ط1, 2021م, ص(126).

[3]) قراءة في نص شعري, د. صلاح مريبش, دون مطبعة, ط1, 2020م, (4/117).

[4]) البنى الأسلوبية في شعر الغربة, سالم عبدالرب السلفي, دار أمجد, الأردن, ط1, 2018م, ص303.

[5]) البنى الأسلوبية في شعر الغربة, سالم عبدالرب السلفي, دار أمجد, الأردن, ط1, 2018م, ص321.