"مشروع كاساندرا"..

من أميركا اللاتينية إلى الشرق الأوسط: تاريخ طويل من الجريمة المنظمة لـ "حزب الله"

في ظل التصعيد العسكري بين إسرائيل وحزب الله، وتكبد الحزب خسائر فادحة، تبرز تساؤلات حول مصادر تمويله المستقبلية. فبعد استهداف إسرائيل لشبكاته المالية التقليدية، تتجه الأنظار نحو شبكات التمويل غير المشروعة التي نسجها الحزب على مدى عقود، لاسيما تجارة المخدرات وغسيل الأموال.

حزب الله: من تهريب المخدرات إلى غسيل الأموال، شبكات تمويل عالمية لدعم الحرب

بيروت

تتواصل الحرب بين إسرائيل وحزب الله، في ظل استهداف تل أبيب المنظومة المالية للحزب، بما في ذلك هيئاته الموازية مثل مؤسسة "القرض الحسن" ومعابر التهريب بين سوريا ولبنان. ومع تزايد فداحة الخسائر التي تكبدها الحزب في معارك ميدانية شرسة، تتسلط الأضواء مجددًا على شبكات تمويله غير الشرعية وعلاقاته الوثيقة بعصابات الجريمة المنظمة، والتي تشمل تجارة المخدرات وغسيل الأموال.  

لم يكن ضلوع حزب الله والميليشيات الإيرانية الأخرى في إنتاج وتهريب "الكبتاغون" انطلاقا من سوريا خلال العقد الماضي سوى محطة قصيرة في مشوار طويل راكم فيه الحزب تجربة مذهلة في الأعمال القذرة، تشعب تأثيرها وامتد على طول القارات الخمس.

يرجع تورط حزب الله في تجارة الممنوعات إلى أواخر ثمانينيات القرن الماضي عندما نجح في اختراق مجتمعات الشتات اللبناني في أميركا اللاتينية. واستقطاب شرائح منها تحت تأثير زعاماته الدينية وشعاراته المناهضة للغرب وإسرائيل، فكانت تحويلات اللبنانين تأخذ أولا طابع "الخمس" و"الزكوات" والتبرعات ثم تحولت سريعا إلى ملايين الدولارات من عائدات المخدرات والتهريب والأنشطة الإجرامية الأخرى، والتي أشرف عليها كوادر الحزب ومنتسبيه في كولومبيا والبرازيل وفنزويلا والمكسيك وغيرها.

في السنوات التي أعقبت هجمات الحادي عشر من سبتمبر كانت السلطات الكولومبية تجري عمليات تنصت روتينية على عصابات المخدرات في أراضيها، رصدت خلالها مئات الساعات من المكالمات الهاتفية باللغة العربية، استعانت السلطات الكولومبية بإدارة مكافحة المخدرات الأميركية DEA لفهم محتوى المحادثات، فكانت المفاجأة أن المكالمات تعود لعناصر من حزب الله ينشطون في تهريب المخدرات وغسيل الأموال، ويتعاونون بشكل وثيق مع المافيا الكولومبية. 

كانت هذه العملية بداية إطلاق "مشروع كاساندرا" في 2008 وهو مشروع تحقيقي ضخم أشرفت عليه إدارة مكافحة المخدرات ونسقت جهوده مع أكثر من 60 وكالة محلية ودولية لمحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة، في أكثر من 30 بلدا، واستمر التحقيق أكثر من 8 سنوات وأدى إلى رسم خريطة شبه كاملة عن شبكات حزب الله المسؤولة عن التهريب الدولي للمخدرات، وغسيل الأموال، وعلاقة الحزب بعصابات الجريمة المنظمة في جميع أنحاء العالم.

قبل مشروع كاساندرا كانت "عملية تيتان" المشتركة بين السلطات الأميركية والكولومبية قد وضعت يدها على طرف خيط مهم في إطار تحقيق موسع سعى إلى تفكيك شبكات للتهريب الدولي للمخدرات وغسيل أموال تنشط في عدد من البلدان، قادت التحقيقات إلى رجل لبناني يدعى شكري حرب الذي تبين أنه بمثابة المسير لهذه الشبكات عبر عدد من الشركات الحقيقية والوهمية، وكانت علاقاته بحزب الله واضحة، إذ يرسل بشكل مباشر 12% من عائدات التهريب إلى الحزب في لبنان.

لم يكن الاتجار الدولي في المخدرات وتسيير شبكات غسيل الأموال نشاطا جانبيا يتولى الإشراف عنه أفراد ذو رتب دنيا في حزب الله، أو شخصيات في الشتات اللبناني لا تربطها به علاقات تنظيمية، بل كان توجها استراتيجيا لحزب الله يشرف عليه بشكل مباشر كبار قادته ومؤسسيه الأوائل.

كان عماد مغنية الرجل الثاني في حزب الله قبل اغتياله في 2008 مسؤولا عن العمليات المالية القذرة للحزب، وأنشأ لهذا الغرض وحدة خاصة بالشؤون المالية، حسب وثائق إدارة مكافحة المخدرات. لم يكن مغنية قائدا عاديا، كان أرفع مسؤول عسكري في الحزب، وهو التالي بعد حسن نصر الله في هيكلية المنظمة.

بعد مقتله تولى عبد الله صفي الدين مكانه في الإشراف على الأنشطة المالية المرتبطة بتهريب الممنوعات وغسيل الأموال، إلى جانب عمله مبعوثا لحزب الله لدى إيران. عبد الله صفي الدين هو شقيق هاشم صفي الدين رئيس المجلس التنفيذي للحزب والمرشح المحتمل لخلافة حسن نصر الله قبل مقتله في أكتوبر الماضي. 

يساعد عبد الله صفي الدين في الإشراف على مهامه -حسب المكالمات التي تم اعتراضها من قبل وكالة DEA- المدعو أدهم طباجة العضو البارز في حزب الله ومالك أغلبية الأسهم المالية في مجموعة التطوير العقاري والبناء التابعة للحزب والتي تدعى "الإنماء لأعمال السياحة" ومقرها لبنان.

عبد الله صفي الدين ربطته التحقيقات في كولومبيا وفنزويلا بالعديد من شبكات تهريب الكوكايين وغسيل الأموال بينها واحدة من أكبر الشبكات التي حققت في نشاطاتها إدارة مكافحة المخدرات على الإطلاق والتي يقودها رجل الأعمال اللبناني أيمن جمعة المقيم في "ميديين" موطن كارتيل بابلو إسكوبار.

ربط أيمن جمعة حزب الله اللبناني بعصابات الجريمة المنظمة في أميركا اللاتينية، لاسيما عصابة "لوس زيتاس" في المكسيك، وعبرها تمكن من تهريب أطنان من الكوكايين مباشرة إلى داخل الولايات المتحدة، وأطنان أخرى إلى أفريقيا ومنها إلى الشرق الأوسط وصولا إلى أوروبا، وتمكن من غسل 200 مليون دولار شهريا من عائدات الكوكايين، تنتهي نسب كبيرة منها في خزينة حزب الله.

وكما كان أيمن جمعة حلقة الربط بين حزب الله وكارتيلات كولومبيا، كان شكري حرب شريكا لعبد الله صفي الدين وحلقة ربط أخرى بين الحزب وبين عصابات أخرى في كولومبيا والبرازيل لاسيما عصابة PCC البرازيلية التي دعمها الحزب بالسلاح مقابل خدمات لوجستية لصالحه تمثلت أساسا في تأمين عمليات نقل المخدرات وحماية عناصره. 

تتركز نشاطات الحزب غير المشروعة في المثلث الحدودي بين البرازيل والأرجنتين والبارغواي، وتُعد هذه المنطقة نقطة انطلاق أو عبور رئيسية للمخدرات والبضائع غير القانونية نحو أسواق خارجية في أميركا الشمالية وأوروبا والشرق الأوسط.

توسعت شبكات تهريب الممنوعات وغسيل الأموال التابعة لحزب الله لتشمل دول غرب أفريقيا، والشرق الأوسط وأوروبا وكندا وأستراليا، وقد تمكنت سلطات إنفاذ القانون في كثير من الدول من اختراق هذه الشبكات وتعطيل فعاليتها، لكنها مازالت نشطة بطريقة أو بأخرى.

لأسباب سياسية توقف مشروع كاساندرا قبل أن يصل إلى محطته النهائية، ونتيجة لذلك كان من الصعب تقدير كمية المخدرات التي أدخلها حزب الله إلى الولايات المتحدة، لكن الذي لا شك فيه أنه تمكن من إدخال آلاف الأطنان من فنزويلا وحدها في غضون سنوات حسب مجلة نيوزويك. ويعتقد بعض المحققين أن عائدات حزب الله تصل إلى مليار دولار سنويا من تجارة المخدرات والأسلحة وغسيل الأموال وغيرها من الأنشطة الإجرامية. لكن يبدو أن هذه الأموال كلها لم تكن كافية لتغطية مصاريف حروب الحزب الداخلية والخارجية، وطموحاته التوسعية.

تقدم إيران لحزب الله دعما ماليا سنويا يتفاوت حجمه حسب ظروفها الاقتصادية، التي تتحكم فيها أسعار النفط والعقوبات الدولية، وقد وصل هذا الدعم في السنوات التي أفرج فيها عن أرصدتها المجمدة عقب دخول الاتفاق النووي حيز التنفيذ إلى 700 مليون دولار سنويا.

بعد تدخل الحزب في سوريا إلى جانب نظام بشار الأسد، واستنزاف الحرب لميزانيتهما، نقل الحزب خبراته الطويلة في مجال إنتاج وتهريب المخدرات إلى سوريا ولبنان والعراق. في السابق كان الحزب في لبنان يكتفي بفرض ضريبة على الموردين والموزعين، وحماية كبار المنتجين ومزارعي الحشيش والمهربين أمثال نوح زعيتر، مقابل حصص معينة من العائدات. 

ابتداء من 2012 شرع الحزب في بناء وحدات إنتاج ومعامل سرية في سوريا لصناعة مخدر الكبتاغون، وهو عقار ذو خصائص إدمانية تم حظر بيعه في الصيدليات منذ 1986. في غضون سنوات حول حزب الله، بتعاون مع النظام السوري والفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد والميليشيات الإيرانية الأخرى، سوريا إلى أكبر مصدر لمخدر الكبتاغون في العالم، إذ تشير بيانات الحكومة البريطانية إلى أن سوريا تنتج قرابة 80% من الإنتاج العالمي من الكبتاغون. وقد بلغت القيمة المصدرة منه في 2021 حوالي 5.7 مليار دولار. 

نسج حزب الله بالتعاون مع الميليشيات الإيرانية الأخرى شبكات تهريب امتدت خيوطها في كافة أرجاء الشرق الأوسط، وتشكل أسواق الخليج المستهدف الأول بهذه العقار، لا سيما السعودية التي صادرت منذ 2014 أكثر من 700 مليون حبة كبتاغون. وقد فرضت الولايات المتحدة عقوبات على عشرات الكيانات والشركات والأفراد الضالعين في إنتاج وتهريب المخدرات انطلاقا من سوريا ولبنان بينهم المدعو حسن محمد دقّو، الملقب بـ"ملك" أو "إمبراطور" الكبتاغون، الذي تربطه صلات وطيدة بحزب الله.

كان حزب الله والميليشيات الإيرانية تنقل المخدرات من القصير بريف حمص الجنوبي الشرقي، والمناطق الحدودية مع لبنان بمحافظة ريف دمشق التي يسيطر عليها الحزب إلى المناطق الشرقية في سوريا لاسيما محافظة دير الزور، من أجل ترويجها في المنطقة، وتهريبها إلى العراق ومنه إلى دول أخرى، لكن الحزب في السنتين الأخيرتين أقام وحدات تصنيع بدائية في دير الزور لزيادة الإنتاج وتقليل نفقات النقل وحماية الشحنات التي تقطع مسالك خطيرة وطويلة قبل أن تصل إلى الحدود مع العراق. وقد رصد نشطاء المرصد السوري لحقوق الإنسان إنشاء 7 مصانع في المنطقة، إضافة إلى قيام الميليشيات التابعة لإيران بزراعة مادة قنب الحشيش ضمن أراضي تعود ملكيتها لمهجرين في كل من "سعلو" و"الزباري" شرقي دير الزور. 

المرصد السوري أكد أن الميلشيات الإيرانية المشرفة على إنتاج وترويج وتهريب المخدرات هي كل من حزب الله اللبناني، حزب الله العراقي، الحرس الثوري الإيراني، عصائب أهل الحق التابعة للحشد الشعبي العراقي، ميليشيا الأبدال التابعة للحشد الشعبي العراقي؛ ميليشيا الدفاع الوطني، الفرقة الرابعة.

ووفقاً لمصادر المرصد السوري لحقوق الإنسان، فإن خبراء من الجنسية اللبنانية والإيرانية هم من يقومون بالإشراف على تصنيع المخدرات وزراعة الحشيش ضمن مناطق نفوذ الميليشيات التابعة لإيران في مدينة دير الزور وريفها. بينما تولى حزب الله مسؤولية استقدام "مكابس" الإنتاج من مناطق سيطرته على الحدود اللبنانية السورية إلى محافظة دير الزور، وتتوزع أدوار الميليشيات الأخرى بين تأمين المواد الأولية وتوفير الحماية والنقل اللوجستي والترويج وغيرها.

لم يسبق لحزب الله منذ تأسيسه أن خاض حربا مكلفة كالحرب الحالية، خسر نسبة كبيرة من ترسانته العسكرية، وقُتل وأصيب عشرات الآلاف من عناصره، ودمرت مقراته، واستهدفت مؤسساته المالية، وخسر معظم صفه القيادي الأول، وبالتالي يحتاج إلى موارد مالية كبيرة لإعادة تأهيل قدراته، وبناء قوته من جديد، ولسوء حظه سيكون دونالد ترامب ساكن البيت الأبيض في السنوات الأربع القادمة، وفي أجندته مزيد من العقوبات على إيران، أي أن الرهان الأكبر للحزب في الفترة القادمة سيكون على أموال المخدرات.

وقد نقلت إذاعة صوت أميركا عن مسؤولين أميركيين سابقين أن مصادرهم في أوروبا أفادت بزيادة أنشطة حزب الله المتعلقة بتهريب المخدرات في القارة الشهر الماضي، وأن الحزب الذي أنهكته الحرب يسعى إلى تعزيز عمليات التهريب بسرعة في ظل أزمته المالية المتفاقمة.

كما نقلت الإذاعة عن توماس سيندريك، العميل الخاص المتقاعد في إدارة مكافحة المخدرات التابعة لوزارة العدل الأميركية والذي خدم في إدارة مكافحة المخدرات من عام 1996 إلى عام 2018، قوله بأن أشخاصا ذوي علاقة بتجارة المخدرات أبلغوه عن ارتفاع في نشاط الاتجار بالمخدرات المرتبط بحزب الله في أوروبا خلال الأيام العشرة الماضية. 

الذي اتفق عليه المراقبون والخبراء أن أنشطة حزب الله المتعلقة بتجارة المخدرات ستشهد طفرة في المرحلة القادمة، ومن المتوقع أن ترتفع وتيرة التهريب سواء من معاقله في سوريا ولبنان أو عبر شبكاته في أميركا اللاتينية، موازاة مع جهوده لتبييض الأموال لإنعاش خزينته المتدهورة.