حضرموت والعلم صنوان

جامعة حضرموت..وحكاية النَّحت والشّحت!!

‫د.علي صالح الخلاقي‬‎

حضرموت والعلم صنوان.. فلا تُذكر حضرموت في التاريخ إلا ويُذكر العلم والعلماء الحضارمة، وهذا دأبها وقدرها في الحاضر والمستقبل، وتستحق حضرموت أكثر من جامعة، فأهل حضرموت محبون للعلم حد الشغف واشتهروا به، ونبغ منهم علماء وأدباء ومتخصصون في مجالات عدة يُشار إليهم بالبنان في بلدان كثيرة، خاصة في دول شرق آسيا التي كانوا رُسل الإسلام إليها منذ قرون، وما برحوا يقدمون الأسوة الحسنة أينما حطوا رحالهم، في داخل وخارج حضرموت.. وهذا ما جعل الشاعر يزيد بن مقسم الصدفي يهنئها بما اختصت به بين العجم والعرب بقوله:
يا حَضْرموت هنيئاً ما خُصصتِ به
مِنْ الحكومة بين العُجْمِ والعَـرَبِ
في الجاهلية والإسـلام يعـرفـه
أهلُ الروايةِ والتفتيشِ والطـلـبِ
وقد كان قرار الرئيس عبدربه منصور هادي بإنشاء جامعة في وادي حضرموت صائباً وجاء في وقته ليخفف الضغط عن جامعة حضرموت في المكلا ويسهل وصول التعليم الجامعي إلى مدن وقرى وادي حضرموت حيث الثقل السكاني والعُمق الحضاري.
وخلال مشاركتنا في جلسات المؤتمر العلمي (التاريخ والمؤرخون الحضارمة) وجهت لنا دعوة كريمة لزيارة جامعة حضرموت من رئيسها أ.د.محمد سعيد خنبش خلال مشاركة في أعمال الجلسة الافتتاحية، وفعلا التقيناه في اليوم التالي، الأربعاء الموافق 21ديسمبر 2016م في مبنى رئاسة الجامعة الواقع في (فوّة) وهو الحي السكني الجديد والأكثر عمرانا وتوسعا، وبحضور نواب رئيس الجامعة وعدد من المسئولين فيها، وخرجت أنا وزملائي وزميلاتي من جامعة عدن وهم: أ.د.محمد بن هاوي باوزير، أ.د.أسماء ريمي، د.أحمد باطايع، د. محمود السالمي، د.طه حسين هُديل، د.سالم السلفي، د. محمد أبو رجب، د.هدى علي علوي، خرجنا بانطباعات لا تُنسى عن تلك السويعات الممتعة التي قضيناها في ديوان رئاسة جامعة حضرموت وطوافنا في بعض أقسامها، وقاعتها الرئيسية الكبرى التي تحمل اسم (علي هود باعباد) وهو أول رئيس للجامعة، رحمه الله، وكانت قد شهدت في اليوم السابق فعالية الذكرى الثالثة لاستشهاد المقدم بن حبريش وانطلاق الهبة الشعبية، والتقطنا صورا تذكارية فيها مع رئاسة الجامعة وكذا في قاعة اجتماعات مجلس الجامعة المجهز بالتصويت الالكتروني، وفيما يلي أبرز الانطباعات عن هذه الزيارة:
جامعة حضرموت حديثة النشأة تأسست عام 1993م، وتضم 15 كلية، وتتميز بوجود كلية للهندسة والبترول وكلية العلوم البيئية والأحياء البحرية. وتتواجد عشر من كليات الجامعة في مدينة المكلا عاصمة محافظة حضرموت, فيما تتوزع خمس كليات في وادي حضرموت, وجزيرة سقطرى, والمهرة وشبوة.ويدرس في الجامعة زُهاء خمسة عشر آلاف طالب وطالبة.
معدل الإقبال على كليات الجامعة في ارتفاع مستمر كل عام، وتحتل كليات الطب والهندسة والعلوم الإدارية المرتبة الأولى في اختيارات المتقدمين، ومع ذلك فحتى كلية العلوم البيئية والأحياء البحرية أصبح الإقبال عليها متزايداً.

يتم قبول الطلاب الكترونيا ولتسهيل الإجراءات تتم كافة معاملات القبول من الألف إلى الياء في قاعة عامة واحدة دون صعوبة ولا تستغرق وقتاً كبيراً، وبعد استكمال إجراءات التسجيل يتم إعلان النتائج عبر شبكة الانترنت بكل شفافية ويطلع عليها الجميع، ومن رأى أنه تم قبول من جاء بعده بمعدل الدرجات فيحق له التظلم وانصافه، ومثل هذا لا يحدث لأن القبول يتم حسب الأولوية ولا مجال للاستثناء أو الوساطة، وحتى رئيس الجامعة لا يحق له ذلك، ومن صلاحيته فقط هو إضافة مقعد واحد لكل من محافظات المهرة وشبوة وسقطرى بقبول الأوائل فيها كدعم متفق عليه لهذه المحافظات، وحتى المقاعد المدفوعة الرسوم من قبل السلطة المحلية لا يتم اقراراها إلا وفقا لامتحانات المفاضلة، وبالمثل تلك المقاعد التي يدعمها الشيخ عبدالله بقشان تتم حسب نُسب وترتيب المعدلات، كما يتم أيضاً قبول الأوائل فقط من أرياف حضرموت مثل: غيل بن يمين، عَمد، الضليعة، حجر، يبعث ودوعن. ومع ذلك ففي كل هذه الحالات شبه الاستثنائية يتم القبول ما فوق معدل 90%، بحيث يصل إلى مقاعد الدراسة المتفوقون دون غيرهم.

من المشاكل التي تعاني منها جامعة حضرموت وإدارتها وطلابها هو تباعد المسافات بين مباني كلياتها التي تتوزع بين "فوة" و"فُلك" و"الغليلة"، كما أنها تعاني من عدم وجود مباني حديثة خاصة بالكليات باستثناء مبنى كلية الهندسة والبترول وهو المبنى الوحيد فقط الذي شيدته الدولة منذ تأسيس الجامعة، أما بقية الكليات فجميعها تعمل في مبانٍ قديمة متهالكة ومؤقتة تعود إلى منتصف ثمانينات القرن الماضي ولا تتناسب مع وظائفها الجديدة، ويحب الأستاذ د.عبدالله صالح بابعير نائب رئيس الجامعة للشئون الأكاديمية أن يطلق عليها بطرافته المعهودة صفة (زرائب)..وربما أراد بذلك إيصال رسالة-عبرنا- للمسئولين والمعنيين للالتفاف إلى هذه الجامعة والعمل على اعتماد منشآت حديثة لكلياتها بدلاً من المباني المؤقتة خاصة وقد مضى ما يزيد على العقدين من عمر الجامعة، وها نحن قد بلغنا الرسالة. ولعل ما يسِرُّ في هذا الجانب أن الجامعة قد سَوَّرت منذ وقت مبكر على مساحات واسعة خاصة بها يمكن أن تستوعب جميع منشآت الكليات ورئاسة الجامعة وأية مراكز أو توسعات مستقبلية، وهذا ما جنبها البسط والسطو والقضم الذي تعرضت وتتعرض له على سبيل المثال بعض منشآت ومساحات كليات جامعة عدن.
عدد أعضاء الهيئة التدريسية والهيئة المساعدة لجامعة حضرموت يبلغ 782 عضوا، ولا يتم القبول في عضويتها بأي صورة استثنائية، بل حسب الأنظمة واللوائح ووفقا لحاجة الكليات لتخصصات المتقدمين الدقيقة، وتتم خطوات القبول وفقا للتسلسل بدءًا من القسم كجهة معنية بذلك، ثم عمادة الكلية ثم مجلس الجامعة. وقد تم تقليص عدد الأساتذة العرب خلال السنوات التي سبقت الحرب الأخيرة واستيلاء القاعدة على المكلا من 150 أستاذاً إلى 37 أستاذا وأستاذا مساعدا، وبقي منهم حاليا 7 أساتذة فقط ، حيث شغل مواقعهم أساتذة من خريجي الجامعة ممن احرزوا المراتب المتقدمة في مختلف التخصصات.
تستغل رئاسة الجامعة رسوم الطلاب بصورة كاملة لصالح تسيير العملية التعليمية في كليات الجامعة، حيث تُصرف منها مبالغ شهرية للمتعاقدين ممن تحتاج إليهم الكليات في تخصصاتهم من الأساتذة الذين أحيلوا إلى التقاعد فتتعاقد معهم بمبالغ تساوي ثلاثة أرباع رواتبهم، وكذا تُصرف مبالغ لمن لم تعتمد رواتبهم ولم تتم تسوية أوضاعهم المالية حتى الآن والذين يصل عددهم إلى (173) من أعضاء الهيئة التدريسية وتتفاوت المبالغ حسب الدرجة العلمية لكل منهم بحيث يستطيعون مواجهة أعباء الحياة وتوفير الاستقرار الذي يمكنهم من العطاء العلمي. كما يتم صرف مستحقات الأساتذة المناقشين والمشرفين على رسائل الماجستير والدكتوراه في مختلف التخصصات في وقتها مباشرة ودون تأجيل، وليس كما يحدث في جامعة عدن، الذي مضى على بعضهم سنوات دون استلام مستحقاتهم وكادوا أن ينسوها. وما يثير التقدير والإعجاب أن رئيس الجامعة ونوابه يعملون برواتبهم وعلاوات الراتب فقط، وتنازلوا عن جميع الحوافز المستحقة الأخرى طوعيا لصالح الجامعة للتخفيف من معاناتها ومشاكلها المالية. وما أثار دهشتنا حقاً هو أن نواب رئيس جامعة حضرموت وعُمداء الكليات فيها لم تصرف لهم سيارات خاصة بمناصبهم من الدولة أو على حساب الجامعة حتى الآن، وهم يستخدمون وسائل المواصلات الخاصة بهم، وحتى رئيس الجامعة لم تُصرف له السيارة الخاصة به إلا منذ أربع سنوات..وهنا لا مجال للمقارنة مع ما تم صرفه في جامعة عدن لكل من هب ودب وعلى حساب حاجة الكليات والعملية التعليمية والأكاديمية فيها، وهذا لا يعني أن لا تصرف لهم سيارات، بل يجب مساواتهم بنظرائهم في بقية الجامعات الحكومية. وما زادنا اعجاباً أن رئيس الجامعة قد ألحق ابنه في إحدى الكليات بالنفقة الخاصة وعلى حسابه الشخصي رغم أحقيته بالحصول على مقعد بمعدله المرتفع أسوة بأمثاله، لكنه فضل ذلك عن قناعة ليقدم الأسوة الحسنة وحتى لا يلجأ إليه أحد للتوسط أو طلب استثناء لقبول أي طالب خارج عن المعايير المتبعة.

التجربة المتفردة التي تتميز بها جامعة حضرموت ونالت اعجابنا هي اعتماد مبدأ الانتخاب لعمداء الكليات ونوابهم ورؤساء الأقسام، وحينما يتعادل مرشحان ويحصد كل منهما نسبة 50% من الأصوات، ففي هذه الحالة يفصل رئيس الجامعة باختيار مرشح آخر غيرهما. وحققت هذه التجربة نجاحاً باهراً، ومن المفيد دراستها والأخذ بها في المستقبل في إطار كليات جامعة عدن.

شهادات تخرج الطلاب يتم استلامها في فترة لا تتعدى الثلاثة أشهر.. ولا مجال للتأخير، ويا ليت الأمر يكون كذلك في جامعة عدن التي يعاني خرِّيجوها من تأخر استلام شهاداتهم لفترات طويلة تصل إلى عام وربما أكثر وهو ما يعرقل ويؤخر حصولهم على فرص العمل.

كان اللقاء فرصة لنقل رسالة من رئيس جامعة عدن من قبل زميلنا د.محمد بن هاوي باوزير، ودعوة رئيس جامعة حضرموت لزيارة جامعة عدن لمزيد من التنسيق وتبادل الخبرات، فيما استغلت زميلتنا د.هدى علي علوي رئيسة مركز المرأة للبحوث والتدريب بجامعة عدن في التعرف على د. احلام صالح بن بريك مديرة مركز المرأة للدراسات والبحوث في جامعة حضرموت فانشغلت معها في حديث حول التنسيق والعمل المشترك بين مركزيهما في المستقبل.

ختاماً.. هذه أبرز الانطباعات التي لفتت انتباهنا وحفرت لها مكاناً في ذاكرتنا.. وأتذكر أنني علقت على حديث رئيس الجامعة ونوابه بالقول:" إنكم بمثل هذه الظروف والصعوبات الجمة وبما تحققونه من نجاحات باهرة تحفرون بالصخر وتقدمون نموذجاً مشرفا ينبغي أن تقتدي به جامعة عدن وبقية الجامعات". فعقب د.بابعير بطرافته مباشرة بالقول:"بل ننحت ونشحت !!".ويقصد أنهم لا يألون جهداً في طرق أبواب الخير والسعي لدى رجال الأعمال ومؤسسات الدولة لتقديم الدعم للجامعة التي تخطو بثبات بإمكانيات بسيطة، لكن بهمم كبيرة وبروح وطنية طموحة لا مجال فيها للمطامع والمصالح الذاتية التي تتلاشى وتختفي هنا لتسمو روح التضحية والإيثار وتغليب المصلحة العامة على ما عداها.

أوردت هنا أبرز ما لفت انتباهي لعل وعسى جامعة عدن ورئيسها الجديد أ.د.الخضر ناصر لصور تحذو حذو جامعة حضرموت وتستفيد من تجربتها في معالجة كثير من المشاكل القائمة مع فارق الامكانيات الكبيرة لصالح الأخيرة بالطبع والذي يمكن أن ينتشلها من أوضاعها الحالية.

وما أحوجنا لمثل هذا النحت..ولمثل هذا الشّحت..يا أستاذنا الرائع د.عبدالله بابعير..ودمت ودامت حضرموت وجامعتها المتألقة بألف خير ..