رشيد الخيُّون يكتب:
قانون نفط العراق.. يعقر «الناقة»!
واجه قانون شركة النفط الوطنية، المُقر مِن قِبل مجلس النواب العراقي في (5/3/2018)، انتقادات لم تتوقف حتى هذه اللحظة، مما حدا ببعض المختصين باقتصاد النفط تقديم اعتراض إلى المحكمة الاتحادية لإبطاله، على أنه يؤدي إلى رهن ثروة العراق النفطية بالعقود التي تبرمها الشركة مع الشركات العالمية. ومعلوم أن مناقشة قوانين خطيرة، مثل قانون النفط، وإقرارها من قِبل مجلس النواب، يفوز بالتصويت من عشرات النواب الذين لا يفقهون مدى خطورة القانون على مستقبل اقتصاد البلاد، فلا يعني رفع اليد بالموافقة أو الرفض أن هذا النائب أو ذاك قد درس القانون وفهم محتواه، فبينهم من «تعوِّذه أُمُّه إن مشى/إلى البرلمان بأمِّ القرى» (الجواهري، المقصورة 1947). لكن النبأ اليقين عند أهل الاختصاص، المعنيين باقتصاد النفط، لأن القانون اقتصادي بحت.
اشتهر العراق بالنفط قديماً، فلم يُعرف في مستهل القرن العشرين، ولم يبدأ باستعماله في ذلك الحين، إنما عُرفت هذه الأرض بنفطها قبل عشرات القرون، ليس هذا قول خرافي كمطارات ومركبات سومر الفضائية، إنما معلومة مثبتة، فلغزارته وقربه مِن سطح الأرض كان يسيح سيحاً، وتوصلوا إلى استخدامه في إضاءة المشاعل والحرب، وعلى وجه الخصوص في العصر العباسي. اليونانيون أقدم من أشار إلى نفط العراق بالوصف: «القير البابلي، ولونه أبيض، وقد يوجد ما هو أسود، وله قوة تستلب النار» (ابن البيطار، الجامع لمفردات الأدوية والأغذية).
كان للنفط خزانات وتسمى «القدور» في دار الخلافة ببغداد. قال سبط ابن الجوزي (ت 654هـ) عن حريق شب بالدَّار: «احترق جميع ما كان في الخزانة من الأسلحة.. وقدور النفط» (مرآة الزمان). يطلق على الفرقة الخاصة بسلاح «النفط» اسم «النّفاطين». كان النفط يُستعمل في الإضاءة، فيروى أن الخليفة القائم بأمر الله (ت 467هـ) عند عودته من منفاه بحديثة، فـ«اجتمع النساء والنفاطون بالدفوف ومَن يُغني بين يديه» (ابن الجوزي، المنتظم)، وقيل شعراً عن استعمال النفط في الإضاءة: «لا يبصر.. طريقاً به/ إلا إذا يمشي بنفاط» (التوحيدي، الرسالة البغدادية). كذلك كان درب «النفاطين» في العصر العباسي معروفاً ببغداد (كتاب الحوادث الجامعة).
مع ذلك، كانت رؤيا النفط تُفسر بـ«مال حرام أو مكروه مِن جهة السُّلطان» (ابن سيرين، تفسير الأحلام)، وكثيراً ما يُستخدم في الهجاء، مثل لقب «نفطويه» صاحب اللغة إبراهيم بن محمد (ت 323هـ)، وذلك «لدمامته وأدمته تشبيهاً له بالنفط» (ابن خِلِّكان، وفيات الأعيان).
هذا ولعبد الصمد بن المعذَل (ت 240هـ)، هاجياً والي «النفاطات»: «لَعمري لَقد أظهرت تيهاً كأنما/ توليت للفضل بن مروان منبراً/ وما كُنت أخشى لو وليت مكانه/ على أبا العباس أن تتغيرا/ بحفظ عيون النفط أحدثت نخوةً/ فكيف به لو كان مٍسكاً وعنبرا/ دعَ الكبر واستبق التَّواضع إنه/ قبيح بوالي النفط أن يتكبرا» (البيهقي، المحاسن والمساوئ).
لستُ من أهل الاختصاص، لكنني استعنتُ بما كتبه المختصون، ووجدت الكثرة منهم متشائمين من القانون، وكأنهم محمد بن سيرين (ت 110هـ)، وما نُسب إليه مِن تفسير منام النفط بأسوأ طالع. بهذا الشعور كتب المختص باقتصاد النفط وثاب السعدي: «قانون شركة النفط الوطنية يُضيع ثروة النفط إلى الأبد». وقال: «الدولة العراقية وفق هذا القانون، لم تعد مالكة للنفط، لها فقط حقُّ جباية الضريبة على أرباح الشركة من عملياتها النفطية، وأكرر وأذّكر بأنها ضريبة على الأرباح التي تحققها الشركة ليس إلا.. تتعاقد مع الشركات الأجنبية بعقود تمنح الشركات الهيمنة الفعلية على احتياطي النفط. وليس للدولة العراقية أي وسيلة حقيقية لمنع ذلك. ووفقاً لدراسة لـGREG MUTTIT قدمها أمام نقابة عمال البصرة في 26/5/2005 فإن جميع الأمثلة، رغم قلتها في العالم، لعقود مشاركة أو عقود تمنح الشركات هيمنة على منابع النفط، عقدت مع حكومات ضعيفة أو فاسدة تماماً» (صحيفة المدى).
وعلى عكس ما أفادنا به السَّعدي، كتب المختص بتكنولوجيا النفط عدنان الجنابي: «قانون شركة النفط الوطنية خطوة للخلاص من سلبيات الدولة الرّيعية». ثم قال: «إن الشركة مملوكة للدولة بالكامل، وحالياً يُمثل مجلس الوزراء ملكية الشعب، وبعد تطبيق القانون تصبح الشركة تمثل الشعب، وهي تابعة لمجلس الوزراء.. إن البنك المركزي العراقي يمثل الشعب في إدارة النقد، ويحتفظ باحتياطي الشعب ويديره من دون رقابة» (مركز البحوث والدراسات العراقية).
حسب الرأي الأول صار النفط من التأميم إلى التسليم، وحسب الرأي الثاني أن القانون سيفرض توزيع موارد النفط على العراقيين بيتاً بيتاً! يقول محمد مهدي الجواهري (ت 1997) في الثروة المختلفة علة قانون استغلالها: «حقول النفط تسمنُ راصديها/ وغازيها وإن ثَمُن الرَّصيد» (أفتيان الخليج، أبو ظبي 1979)، لو بقي العشر للعراقيين صارت بلادهم زاهية، لكن هيهات يتصالح العقل مع الثروة ببلاد نواب برلمانها فعلوا بها ما فعله قوم صالح بناقته، فقانونهم هذا عقر العراق. قيل: «أشأم مِن أحمرَ عاد» (الميداني، مجمع الأمثال)، وأحمر هذا عاقر الناقة!
* نقلا عن "الاتحاد"