فاروق يوسف يكتب:

في مديح السرطان

تظاهر مرضى السرطان في بغداد احتجاجا على اهمال العناية بهم من قبل المؤسسات الصحية التي صارت في ظل انهيار القطاع الصحي عاجزة عن القيام بأصغر واجباتها.

هذه هي المرة الأولى في التاريخ كما أتوقع التي يتظاهر فيها مرضى، فكيف إذا كان أولئك المرضى مصابين بمرض مميت؟

يسجل العراق بذلك رقما قياسيا جديدا يُضاف إلى أرقامه القياسية السابقة التي جعلت منه البلد الأسوأ في العالم على مستوى العيش.

انهيار القطاع الصحي ليس إلا جزءا من كل. ففي ذلك البلد لا يمكن إحصاء المشكلات التي يعاني منها المجتمع الذي صار ومنذ سنوات ينظر إلى وجوده بعينين مرتابتين.

يشك الكثيرون في أن المجتمع العراقي لا يزال حياً بالمعنى الوجودي.

الأقسى أن هناك مَن صار يتساءل "هل كان هناك أصلا مجتمع عراقي؟"

كانت هناك ظاهرة عراقية بالتأكيد. عبرت تلك الظاهرة عن وعد عميق كان له تأثيره اللافت في الحياة العربية.

فالعراق في دولته الحديثة وهب العالم العربي الكثير.

شخصيات ومواقف عبرت عن نبل استثنائي ورفعة بطولية.

كان هناك مجتمع عراقي. ذلك ما يمكن أن نهتدي إليه بيسر من خلال القاء نظرة عابرة على ما قدمه العراقيون من إنجازات فكرية وأدبية وعلمية وطبية وفنية عبر عقود من الزمن. ولو لم يكن هناك مجتمع حقيقي لما شهد العراق نهضة علمية في مختلف مراحله التاريخية بدءا من عشرينات القرن العشرين التي شهدت تأسيس الدولة العراقية الحديثة.

لقد كان العراق حتى نهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي يمتلك نظاما صحيا متطورا يديره أطباء أكفاء من خريجي الكلية الطبية العراقية ممن أكملوا دراساتهم العلمية في أرقى جامعات العالم.

كان الطبيب العراقي مثالا للإخلاص والتفاني والجرأة والنزاهة والعفة والدقة في التشخيص والمجازفة في مواجهة الأمراض. لذلك لم تفتك الأوبئة بالمجتمع العراقي بل أن العديد من تلك الأوبئة لم يعد لها ذكر في العراق.

لقد فتحت المستشفيات العراقية أبوابها للمرضى القادمين من مختلف أنحاء العالم العربي. وكان أولئك المرضى الذين يثقون بالطبيب العراقي يحظون برعاية قد تفوق الرعاية التي يحظى بها أقرانهم العراقيون.

كل ذلك صار من الماضي. فبعد أن تم تحطيم الدولة في العراق بعد احتلاله عام 2003 انهارت كل القطاعات الخدمية وفي مقدمتها القطاع الصحي وقطاع التعليم ناهيك عن الزراعة والصناعة وخدمات البنية التحتية كالكهرباء والماء والصرف الصحي ومشاريع الارواء والصناعات التقليدية.

اما الفنون والآداب فإن كانت لا تزال تقاوم فإنها صارت تتعثر بالرثاثة والوضاعة وفقر الخيال والمجانية وضيق الأفق.

العراق الذي يتظاهر فيه مرضى السرطان احتجاجا على ما آلت إليه أحواله هو بلد خان تاريخه. هناك مجتمع يقف في لحظة سؤال يتعلق بوجوده. إنه سؤال مصيري.

وإذا ما كان العراقيون في تاريخهم قد استسهلوا البكاء في محاولة منهم للهروب من مواجهة المسؤولية فإن اللحظة التي يضطر فيها المرضى للخروج في تظاهرة ينبغي أن تكون لحظة فاصلة في تاريخهم.

فهل ينتظر العراقيون أن يخرج الموتى من قبورهم ويتظاهرون احتجاجا على ما انتهت إليه بلاد الرافدين ليدركوا حجم الكارثة التي ضربتهم؟

سيكون ذلك مشهدا مرعبا، لكنه متوقع في العراق ما دام هناك صمت هو عنوان للخوف الذي دفع الكثيرين للتواري من أجل أن يمر السرطان الأكبر. فما قبل به العراقيون ومنذ اليوم الأول للاحتلال قد أسس لما انتهى إليه العراق اليوم من ضعة وضياع قيمة وصغر وعزلة وتخلف وابتذال.

وما القبول بنظام المحاصصة الطائفية الذي فرضه المحتل الأميركي إلا عبارة عن موافقة ضمنية للموافقة على حق السرطان في أن يفتك بالجسد العراقي.

مرضى السرطان وهم يتظاهرون لا ينتظرون نظرة إشفاق من مجتمع فتك به السرطان الأكبر.

إنهم يكملون الصورة التي كانت ناقصة من غير مديح للسرطان.