سمير عطا الله يكتب:

وجوه من رمضان: تلميذ يافع

في «أيامنا»، أي الخمسينات والستينات، كانت وسائل الاستماع محصورة بالراديو. وسعداء الحظ كان لديهم أيضاً آلة تسجيل ضخمة لها شرائط بلا نهاية. والأكثر حظاً كانوا يرفقون ذلك بما سمي «بك آب»، تدار عليه الأسطوانات سرعة 75، وتأتي من ثناياها العجيبة أصوات الموسيقى وألحان السعادة ورقّ الحبيب.
الإذاعات كانت الأكثر توافراً. كل بيتٍ تقريباً فيه راديو ألماني، ويحمل من أنحاء الأرض شتى الإذاعات. كان هذا قبل وصول «الترانزستور» الياباني السحري، الذي تستطيع أن تنقله معك إلى أي مكان في الجمهورية اللبنانية، عاملاً بالبطاريات الصغيرة، ملتقطاً الموجات القصار والطوال والمتوسطة. وأعزّ الله من كان يعرف الفرق، إلا بكمية التشويش.
كانت الإذاعة موجودة في السيارة والمنزل، ولاحقاً في النزهات.

وكانت «إذاعة الشرق الأدنى»، التي يديرها خبراء فلسطينيون، هي الأكثر تقنية ومصداقية وتنوعاً. وكان معظم السياسيين العرب يهاجمونها، ولا يستمعون إلى سواها.

وروت السيدة تحية عبد الناصر أنه فيما كان زوجها على سرير المرض الأخير، تردد الأطباء في اطلاعها على حقيقة حالته، فطلبت من ابنتها أن تستمع إلى الـ«بي بي سي»، لتعرف منها مدى خطورة الوضع.
كانت الإذاعات تقدّم مسرحيات شكسبير، التي قال القوميون إنها دعاية استعمارية وغزو فكري. وتقدّم أحاديث لأبرز المفكرين، وتسجيلات فنية، وبرامج فكاهية ساحرة.

ومن أجمل ما تقدمه في انتظام للسامعين العرب في كل مكان أبرز مقرئي المرحلة. كنت أمضي عصر كل يومٍ ساعتين على الأقل إلى جانب خالي الشاعر بولس سلامة، الذي أقعدته العمليات الجراحية إثر إصابة خلال عمله قاضياً.

وكان يطلب مني أن أقرأ عليه من القرآن أو من التراث الإسلامي، فإذا ألحنتُ صحح لي، وإذا سألتُ شرح. ومن دون أن يتعمّد، ومن دون أن أدرك، صرت تلميذاً لأحد كبار اللغويين ومحبي الإسلام.
نشأت في بيئة قربها من الإسلام عفوي. وأيام كانت الزيجات المختلطة مشكلة، اقترنت ابنة خالتي بعثمان الزين، نجل مفتي صيدا.

وفي منزل عثمان وروز، أصبحت أستمع إلى القرآن مرتلاً للمرة الأولى في أداء الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وليس فقط قراءته.
إلى اللقاء.

*الشرق