رشيد الخيُّون يكتب:
برنارد لويس.. لا ملاك ولا شيطان!
أُشيرَ إلى المؤرخ والمستشرق برنارد لويس (1916-2018) بأنه «مهندس تقسيم الشرق الأوسط»، و«مهندس سايكس بيكو الثانية»، و«الصهيوني حتى العظم»، و«عدو العرب»، ونعوت كثيرة ليس لها آخر، أخفت وراءها المؤرخ والعالم الثري في مجاله.
لستُ معترضاً على تلك النُّعوت، لو جاءت من نظر في مؤلفاته، التي ربت على الثلاثين، من غير الدراسات المستفيضة. فوفق ما كُتب عنه، في حياته ومماته، لا فائدة مما ألفَ في تاريخ الإسلام، بداية مِن أوائل كتبه «أصول الإسماعيلية والفاطمية والقرمطية» (1940)، وهو أطروحته لنيل الدكتوراه، الذي قَدم لطبعته العربية المؤرخ عبد العزيز الدُّوري (ت 2010)، و«العرب في التاريخ» (1950)، وانتهاءً بـ«من بابل إلى دارجومان» (2004).
فمَن يقرأ عن النكبات الكبرى في تاريخنا، لا يستغرب صب ثياب التهمة فيها على شخص أو جماعة، من قتل الخلفاء الأوائل إلى سقوط الإمبراطوريات، العباسية والعثمانية، وظهور الدول الوطنية، ووجود الأحزاب والثورات، ووجود الحركات الدينية كلها مؤامرات، وبهذا الشعور السلبي رُكبت برأس برنارد لويس نكبات المنطقة، على أنه راسم أقدارها!
كُتب عن لويس بمثل ما كُتب عن الاستشراق عامة، والكل يستشهد بـ«استشراق» إدوارد سعيد (ت 2003)، وخص لويس بأنه مثل غيره فسر مصطلح «الثورة» بالهيجان، ونحتها من «ثور». لكن أياً منا عندما يبحث عن معنى الثورة في المعاجم العربية لا يجد تلك المعاني! ألم يحرم فقهاء المسلمون «الثورة» ويصفونها بالمفسدة (كتب الأحكام السلطانية والخراج)؟! كذلك كتب سعيد: «تُعتبر دراسة لويس العرق واللون في الإسلام مِن كره مشابه، متلبسة لهجة من المعرفة العظمة» (كتاب الاستشراق). هنا، نُحيل القارئ إلى كتاب «الإسلام الأُصولي في وسائل الإعلام الغربية» الذي أصدرته دار «الجيل» (1994)، كيف يتحدث لويس عن الإسلام بإيجابية، والكتاب صدر بالاشتراك مع سعيد نفسه، وفي حياتهما، ولا نظن أن الدَّار جمعت بينهما دون موافقتهما. للأسف أُخذ ينظر عربياً إلى الاستشراق مِن عاطفة مأزومة، ومِن خواء معرفي، حتى غابت علينا حسناته في إظهار الكم الهائل من تراثنا، الذي لم نبدأ بالبحث عنه، والعمل على حفظه إلا بجهود المستشرقين.
إذا كان لويس اعتبر الاستعمار لبعض البلدان لا يخلو مِن فائدة، في بناء المدن والأنظمة والطرقات والمكتبات، وهذا ما أُخذ عليه، فمَن منا ينفي تلك الحسنات؟! اقرؤوا المديح لحليف الاستعمار رئيس وزراء العراق نوري السعيد (قُتل 1958)، بعد تجارب طويلة مع الدكتاتورية والديمقراطية!
لا نتحدث عن لويس الملاك، ولا بقية المستشرقين ملائكة، ولا المستعمرون خلواً من جبروت وعنت، لكن عندما يتحدث أكاديمي أو مؤرخ عليه تجاوز تأزمه مع هؤلاء، لا يطرب للإشاعة، فيؤرخ للحوادث تحت تأثيرها. لا نطلب من لويس امتشاق قلمه من أجل ثوراتنا، لا نطلب منه الحياد الذي يرضينا، لا نرتجي منه كيهودي مقْتَ إسرائيل مثلما نمقتها. لماذا لا نصدقه عندما يقول: «ليس بوسع المرء استلاب تاريخ الماضي لخدمة أهداف حاضرة، أو أن يدع رغبات اليوم تشوه فهمنا للأمس.. على المؤرخ دين لنفسه ولقرائه بالمحاولة بأفضل إمكاناته، لأن يكون موضوعياً» (إيلاف، حياتي مؤرخاً، ترجمة عادل الطريفي).
لم يُترك شيء لم يُنسب للويس، حتى مصطلح «الحشاشين» نُسب إليه، ومع اختلافنا في المصطلح، لكنه اقتبسه ممَن كتب قبله، وليس من عادته كمؤرخ فذ إهمال مصادره. أُطلقت تسمية «الحشاشين» على الجماعة الإسماعيلية النِّزارية، أول مرة، مِن قِبل الرحالة ماركو بولو ضمن تقريره (1273م). هذا ما ورد في كتاب لويس نفسه «الحشاشون».
على ما يبدو، فإن ما كُتب عن لويس كمقسم للشرق الأوسط، ومنظر للغزو الاستعماري الجديد، يُذكر بمَن رد على إيليا أبوماضي (ت 1957)، عندما كتب «الطَّلاسم» ولازمتها «لستُ أدري»، بالقول: «أنا أدري»، فانبرى ثالث ليسأله «كيف تدري»؟! فمَن له دراية بخرائط لويس يسعفنا بها!
لا نعتبر لويس ملاكاً ولا شيطاناً، عالم في مجاله، نذر نفسه لعلمه، لا نطالبه أن يشعر بمشاعرنا تجاه قضايانا، مُنح موهبة فذة في تعلم اللغات، ولم يكتب التاريخ إلا بالمشاهدة والمصدر، فقد ظل متمسكاً بوصية أستاذه هاملتون جب (ت 1971): «ربط الدراسة بالمكان».
عين ما فعله لويس ماسينون (ت 1962)، عندما شد الرّحال إلى بغداد (1908) بحثاً عن الحلاج (أُعدم 309هـ)، ليصنف «آلام الحلاج شهيد التصوف الإسلامي» (1914). لكن لم يؤخذ ولع المستشرق بتاريخ هذه الشخصية بنظر الاعتبار، إنما حُسب بدافع هدم الإسلام! كذلك مؤلفات برنارد لويس، التي صرف فيها جل عمره، اعتُبرت لخدمة المستعمرين ضد المسلمين.
يختصر القعنب بن ضمرة (ت 95هـ) الموقف: «إن يسمعوا ريبةً طاروا بها فرحاً/ عني وما سمعوا مِن صالح دفنوا/صمٌ إذا سمعوا خيراً ذُكرتُ به/ وإن ذُكرتُ بسوء عندهم أذنوا» (الميمني، سُمط اللآلئ). فأي مهتم ومشتغل بالتاريخ وتراث الإسلام استغنى عن برنارد لويس وماسينون وصحبهما؟! وهم ليسوا ملائكة ولا شياطين.
*نقلاً عن "الاتحاد"