فاروق يوسف يكتب:

العراق الذي لا أعرفه

لا يمكنني باعتباري عراقيا أن أصدق أن الشعب الذي أنتمي إليه هو المسؤول عما آلت إليه أوضاعه من انهيار على كل الأصعدة. فما من شيء مما يجري هناك يمتُّ بصلة إلى ما أعرفه. حين أقول العراق فأنا أقصد العراقيين.

تميّز العراق بقسوته وبعنفه وبخيلائه الفارغ، غير أنه كان دائما عفيفا وكريما ومتسامحا وأبيا ونظيف اليد، أبيضها. يغضب بانفعال، غير أن كرامته تنتفض لكلمة طيبة تخترقه مثل رصاصة. كان كريما بسذاجة ولم يكن يرضى لنفسه أن يقع في شبهة الكذب.

الفساد الذي شهد العراق تصاعد نسبته في ظل حكومة حزب الدعوة عبر اثني عشر عاما لم يعرفه العراقيون من قبل. سمم ذلك الحزب وجبات العراقيين اليومية بوصفاته الفاسدة. فسد المطبخ العراقي حين اقتحمته روائح الطعام العفن الذي يطبخه الجيران. وكما يبدو فإن حزب الدعوة، وهو عميل إيراني، قد قرر أن يتفوق على حزب البعث الذي كان بمثابة ولد العائلة الشقي في عزل الشعب العراقي عن حقيقته التاريخية وعن سمو قيمه الأخلاقية.

عام 2003 كانت هناك حرب على العراق، سعى مروّجو ثقافة الاحتلال من العراقيين أن لا يظهروها بشكلها الحقيقي باعتبارها حربا على العراقيين، وهو ما يمكن أن يضع العراق على ضفة، والعراقيين على الضفة الأخرى.

الحرب من وجهة نظرهم كانت على العراق وليست على العراقيين.

لذلك صار ممكنا أن نتحدث عن عراق من غير عراقيين وعراقيين من غير عراق. مسألة شائكة من ذلك النوع، كان حلها يسيرا من خلال تمكين أشخاص لا يعرفون العراق وشعبه من حكمهما والاستيلاء على ثرواتهما وتفريقها بين مواليهم ودعم قطاع الطرق في مشاريعهم الميليشاوية. فحزب الدعوة الذي حكم العراق اثنتي عشرة سنة هو حزب أجنبي لا تنتمي سياسته إلى ما يصبو إليه العراقيون من حياة كريمة، يسودها العدل والأمان والمساواة في ظل القانون.

أعضاء ذلك الحزب هم من العراقيين السابقين الذين لم يعرفوا العراق على حقيقته. غادروا العراق في العشرينات من عمرهم، وعادوا إليه وقد أصبحوا شيوخا. لقد وقع العراق ضحية تلك الفجوة.

عراقيون هم ليسوا عراقيين صاروا حكاما على عراق، يقيم شعبه في مكان آخر. هو المكان الذي لم يكلف نظام البعث نفسه بتأثيثه بمقومات بقائه. لقد ترك المجتمع العراقي للقدر منذ هزيمة العام 1991 حين وقعت حرب تحرير الكويت. غاب العراقيون يومها، وحضر العراق الضعيف في خيمة صفوان. وكما يبدو فإن الأحزاب التي كُلفت من قبل المحتل بحكم العراق قد استهوتها فكرة العراق الضعيف. وهو ما حرصت على تكريسه، دعما لفكرة الوصاية الإيرانية.

عراق ضعيف لن يكون وفيا لأبنائه. عراق اليوم هو صنيعة استعمارية لا علاقة لأبنائه بها. وهو ما يجعلني مطمئنا إلى وطنيتي حين أقول “إنني لا أعرفه”. ذلك العراق الذي انحاز إلى إيران بظلامية وليّها الفقيه ليس هو العراق الذي يشرفني الانتماء إليه. إنه عراق آخر صنعه حزب الدعوة والميليشيات الإيـرانية والمرجعية الدينية بكل مكرها ودهائها وحيلها التي تأخـذ شكـل فتاوى. هو ليس عراق العراقيين الذين أنا واحد منهم.

لا أحاول هنا تبرير الأخطاء التي وقع فيها الشعب العراقي. ولكنني على يقين من أن هناك في العراق شعبا حيا. وهو ما لا يرغب الوافدون مع المحتل في النظر إليه بشكل جاد.

فبعد أن حوّلوا البلاد إلى ثكنة لقطّاع الطرق من مشعلي حرائق الطائفية، صاروا لا يرون في العراقي إلا واحدا من اثنين. إما أن يكون فاسدا، لا يهمه مستقبل العراق، وإما منبوذا عاجزا عن إطفاء نار غيرته الوطنية في مواجهة ما لا يفهمه من دعم أممي لحكومات، أجمعت كل منظمات الشفافية في العالم على أنها الأكثر فسادا في التاريخ.

عراق الفساد هو العراق الذي لا أعرفه، ولا أظن أن هناك عراقيا شريفا يمكنه أن ينسج عراقيّته من خيوط ذلك العراق.