هل تتكرر "طائف" الحُديدة؟
هل سيكرر التاريخ نفسه في الحديدة.. أم ستكون الصورةُ ملهمة هذه المرة، خلافًا لمقولة (كارل ماركس) الشهيرة؟
القوات المدعومة من التحالف العربي، صارت تتّفق مع خصومها الحوثيين في أنّ معركة (الُحُديدة) فاصلة وحاسمة.. سينتصر من يكسبها.. أو على الأقل سيفرض شروطه للسلام. وإلى نفس النتيجة تَوصل تقرير نشره (معهد دراسات الشرق الأوسط) الأميركي الشهر الماضي، وأطلق على هذه المدينة الساحلية "فم اليمن".
وأظن هذا التوافق خبرًا يستحق الاهتمام، لأنّه سيزحزح الوضع من حالة الجمود الراهنة التي تخدم تُجار الحروب -الذين استمرأوا بقاءها، وحولوها إلى استثمارات، عابرة للقارات- وقد يُعيد الأمل لملايين اليمنيين الذين مسّتهم البأساء والضراء، وفتر حماسهم مع مُضي الشهور، حتى نسي معظمهم أسباب الحرب ودوافعها -بعد أن اختلطت أوراقها وخلقت قوىً جديدة وواقعًا مُرعبًا- وصار مُنتهى أمل البسطاء استعادة السكينة التي افتقدوها، بإطعامهم من جوع وتأمينهم من خوف.
أمّا الحديث عن الرفاه الاقتصادي، والوحدة، والسيادة، والديمقراطية، فضلاً عن الدفاع عن الشريعة.. أو الشرعية.. أو مُدافعة الجُرعة، وكل مُصطلحات الماضي الجميل؛ فقد صارت من النُكت السامجة.. لا يأبه لها أحد، ولا تُشبع يمنيًّا ذي متربة.. في يوم ذي مسغبة.. فقدت صلاحيتها وبريقها وتحولت إلى هرطقات مُقرفة منذ استخدمها الأفّاكون والدجالون ذريعة لتدمير الدولة خلال أشهر، بسبب أحقادهم وأطماعهم وتوزع ولاءاتهم بين عجز الثقة، وجلَد الفاجر.
استدرجوا اليمن بتلك الشعارات نحو الهاوية.. وخلقوا مُبررات للحرب قضت على ما كان مُتبقيًا من مُقدرات ومُدخرات.. وأدخلت، حتى الذين كانوا ميسورين، في كُشوفِ الجوعى والنازحين، بعد أن حاصروهم بالموت من كُل مكان... وكُلَّمَا طال أمد الحرب، اكتشف اليمنيون مزيدًا من الحُفر التي أوقعهم فيها الناشطون والسياسيون والعسكر، وأنّهم لم يكونوا يمثلونهم.. بل يمثلون عليهم.
ورُغم أنّ السنوات المُنصرمة من عمر الحرب لم يصدُق فيها قولُ.. أو يتحقق وعد، وتسببت في ركود مهنة المحللين السياسيين.. وكساد شُروحات الصحفيين.. لا بأس من التصديق هذه المرة، ولو تعاطفًا وبعثًا للأمل الذي فقده اليمنيون.
لِتَكُن الحديدة نهاية (التَيه) والتخبُّط في استيراد النظريات وتجريب الشعارات وفرض القناعات... أمّا الحرب فهي، حتمًا، ستنتهي بها أو بغيرها. وفِي الأخير ستجد الأطراف المعنية في اليمن نفسها -بغض النظر عن المهزوم والمُنتصر- بين خيار الإبقاء على الدولة الموحدة، القائمة على منح الحقوق المدنية، وفرض الواجبات القانونية على الجميع.. أو الرضا بالتقسيم والتجزئة التي فرضتها الحرب، وصار لها جيوش ومدافعون... والحوار على أفضل السُبل لإضفاء الصِّبغة القانونية عليها.
بين مارس ومايو 1934: خاض الإمام يحيى حربًا ضد السعودية.. قال إنّها دفاعٌ عن شرعية النظام الإدريسي، الذي استجار به.. وفِي غضون أسابيع، فقط، دخلت عساكره أطراف نجران، أمّا الملك عبدالعزيز فقد توغلت قواته التي قادها نجله الثاني "فيصل" في سُهوب الشريط الساحلي حتى تجاوزت الحديدة.. وانتهت حرب الشهرين بتسليم الإمام للأمر الواقع، وتوقيع اتفاقية الطائف -نسبة للقرية التي وُقعت فيها الاتفاقية جنوب منطقة الدُريهمي- ونشوء حلف وثيق بينه وبين الملك عبدالعزيز.. ساندت بموجبه السعودية الإمام يحيى وولده أحمد وحفيده البدر.. وعند إصرار اليمنيين قبل نصف قرن على رفض الإمام الأخير، استضافته السعودية مع أسرته وحاشيته.. ورعت حوار المُصالحة بين طرفي الصراع من الملكيين والجمهوريين.
ومن الواضح أنّ التحركات الأخيرة للمبعوث الأممي، وتحديده السادس من سبتمبر المقبل بداية جولة جديدة.. تريد استلهام التاريخ وتكراره مع عدم اطمئنان وتردد من السعودية المتوجسة من دعم إيران للحوثيين.. فقد نشطت تحركاته بعد أنْ تجاوزت القوات المسنودة من التحالف العربي قرية (الطائف).. وأعلن أنّها تأتي بضغطٍ من دول الاتحاد الأوروبي لإبقاء الميناء في منأىً عن نيران المتحاربين، أعقبها وصول وفود أوروبية وسفراء إلى صنعاء لأول مرة، هدفت لإرسال إشارات للتحالف بضرورة الرضوخ للحوار، وواجهتها السعودية بالتلويح بتوقيف صادرات النفط عبر باب المندب، علاوة على المناورات التي أعلن عنها الجيش المصري، في المياه الإقليمية بالبحر الأحمر، تشمل قوات خاصة من مصر والإمارات والسعودية والولايات المتحدة الأمريكية.
ناهيك عن مُـغازلات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرة للنظام الإيراني.. واشتراط طهران عودة العمل بالاتفاق النووي، خاصة بعد صمتها -الذي يُعدُّ تنازلًا- عن إعلان الْقُدس عاصمة لإسرائيل... لكن الأرجح أنّ ذلك لا يبدو كافيًا، إذ ينبغي تسليمها باستكمال صفقة القرن.
وفقًا لذلك، إذا نجح المبعوث الأممي في مساعيه، سيكون من الواضح أكثر أنّ الحرب جاءت للتخلص من أفكار وقوى وأشخاص كانت تُشكل ضغوطات على الأطراف المُختَلِفة.. لاسيما التي كان لها موقف سلبي من مُحادثات ظهران الجنوب المُتوافق عليها مع طهران قبل أكثر من عامين.. ناهيك عن تمريرها للتغييرات الإيجابية داخل السعودية التي جعلتها أكثر حداثة وعصرنة وتخففاً من الأفكار الماضوية المتطرفة... والتي كان يفترض أن تشهدها أيضاً المناطق المدعومة منها داخل اليمن .!
ومعنى ذلك، أيضاً، أنّ تئوب السعودية لقناعتها السابقة بالرؤية التي كانت سائدة إبان حكم الملك الراحل "عبدالله بن عبدالعزيز" -وتعززت أكثر مع التقارب القطري التُركي في دعم ثورات الربيع العربي-، وخُلاصتها أنّ تركيا أكثر خطرًا على السعودية من إيران.
وكانت سياسة الملك عبدالله قد استقرت على التهوين من الخطر الإيراني ومطامعه، رُغم عُلُو نبرته.. وترّسخ في يقين مُستشاريه -بإيعاز أميركي وأوروبي- أنّ بلدهم في مأمن منه؛ على المدى الطويل وقد تنقرض دولة (الولي الفقيه) قبل أنْ تنجح في تحقيق ما تصبو إليه.
هذه القناعة.. بُنيت على أساس انعدام الحاضنة الشعبية للمذهب (الجعفري) المقرون بالقومية الفارسية داخل الأراضي السعودية، باستثناء أقلية إثني عشرية، تقطُن مناطق محدودة في المناطق الشرقية، لا أثر لها، وتحتمي داخل سياج من الانزواء والعزلة في مواجهة نظرات الكراهية والازدراء من مُحيطها ذي الأغلبية الحنبلية. علاوة على استحالة تقبُّل أكثر من مليار مسلم ينتمون للمذاهب السُنية على اختلافها لسُلطة تدين بالمذهب الإثني عشري.. ونفورهم من سيطرة أتباع مذهب أقلوي كهذا -تربوا على التوجس منه- على أرض تحوي الكعبة المُقدّسة.. التي يصلي ويحج إليها أكثر من مليار مُسلم سُني.
وعلى ذلك فقد خفت حِدّة الاستنفار ضد "إيران" وخفتت أصوات الدُعاة لحربها.
وكان من نتائج تلك القناعة: تغاضي السعودية عن التحذيرات التي أطلقها ملك الأردن السابق (الحسين بن طلال)، وانضم إليه الرئيس المصري الأسبق "حُسني مُبَارَك".. بخصوص تصدير ثورة الملالي إلى بُلدان الشام التي تُشكل هلالًا خصيبًا وتحويلها إلى هلال شيعي تابع لطهران.
.. وتحققت بانتقال سوريا الأسد للضفة الإيرانية، وسيطرة (حزب الله) على مفاصل السُلطة اللبنانية.. وتماهي قرار حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في خدمة طهران المُتكفلة بتسليحها وتمويلها. كما أنّ رفض السعودية التسامح مع ما تبقى من نظام صدام، أوصل إلى التفريط في العراق وتسليمه طواعية لريموت طهران.
صحيح أنّ تخلي السعودية عن منطق التهويل من مخاطر الثورة الإيرانية كان قرارًا مبنيًّا على قراءة لدروس التاريخ والجغرافيا، التي تُخبرُنا أنّ دولة الفُرْس لم يسبق لها على مر العصور احتلال نجد والحجاز، حتى في ظل إحكام قبضتها على أرض الشام واليمن. عكس الأتراك العثمانيين الذين حكموا أرض الحرمين لأربعمائة عام بشرعية الخلافة، واحتلوا عاصمة الدولة السعودية الأولى (الدرعية)، وأسروا ملكها (عبدالله) وأعدموه شنقًا في اسطنبول في مثل تاريخ هذا العام قبل مئتي عام.. بذراع واليهم (محمد علي باشا).. وأنّ نجاحهم في ذلك كان سببه وجود حاضنة شعبية لهم في مُعظم مناطق الجزيرة العربية، بسبب انتماء الدولة العثمانية للمذهب الحنفيّ السني مع تشجيعها لتعليم المذاهب السُّنية الأخرى والاحتكام إليها.
لكن الصحيح أيضًا أنّ ارتكان السعودية في عهد مليكها الراحل على هذه المعلومة التاريخية، نقلها من الغُلو والإفراط في التهويل من التمدُد الإيراني، إلى التهوين من شأنه. وبالمقابل فإنّ التركيز الحالي على إيران فيه تغافل عن التفاهمات الإيرانية التركية الراهنة، التي قد تُسفر عن تقاسم نفوذهما بين الشام واليمن.
للجغرافيا دروسها.. كما أنّ للتاريخ عبره وعِظاته.. لكنها أصبحت دروسًا مستهلكة وغير مواكبة في عصر المعلومات الذي نعيشه.. وتكنولوجيا التواصل التي صارت في متناول جميع سُكَّان الكرة.
ووحدهم، عديمو الموهبة والخيال، من سيلجأون لإعادة التاريخ وتكرار أحداثه.. لأنّ المطامع تتلاقح وتتجدد.. وقد تتحول -مثل"الإيدز"- إلى فيروس مُبتكر وقاتل.