خير الله خير الله يكتب:

بين تشكيل حكومة لبنانية… والانهيار

يمكن لتبسيط الأمور المساعدة، ولو قليلا، في فهم الوضع اللبناني وتعقيداته بما في ذلك صعوبة تشكيل حكومة جديدة برئاسة سعد الحريري. لا حكومة في لبنان، على الرغم من مضي ثلاثة أشهر ونصف شهر على إجراء الانتخابات النيابية في السادس من أيّار – مايو الماضي.

هذه ليست المرّة الأولى التي يتأخّر فيها تشكيل الحكومة اللبنانية. لكنّ التأخير يرتدي هذه المرّة طابعا مختلفا عائدا إلى رغبة واضحة في تغيير طبيعة النظام اللبناني الذي في أساسه الدستور المنبثق عن اتفاق الطائف للعام 1989. هناك إصرار غريب، بل مريب، على تشكيل الحكومة وفق “معايير” تستند إلى نتيجة الانتخابات النيابية التي تظلّ موضوع تفسيرات مختلفة.

استخدم كلمة “معايير” الأمين العام لـ“حزب الله” حسن نصرالله من منطلق أن هناك تفسيرا خاصا لديه للنتيجة التي أسفرت عنها انتخابات السادس من أيّار – مايو الماضي.

ما لم يقله حسن نصرالله عن هذه “المعايير”، قاله الجنرال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني. اعتبر سليماني أنّ إيران تمتلك الأكثرية في مجلس النواب الجديد. حدد هذه الأكثرية بأربعة وسبعين نائبا من أصل 128. ما يقوله يحتاج إلى ترجمة على أرض الواقع، خصوصا أنّه لم يوجد في صفوف الذين عناهم قائد “فيلق القدس” بالأكثرية من يعترض على كلامه.

ما يؤخر تشكيل الحكومة اللبنانية أمران. الأول محاولة ترجمة كلام الجنرال سليماني إلى واقع، فيما الأمر الآخر مرتبط بطريقة تشكيل الحكومة. ليس رئيس الوزراء المكلف من يشكل هذه الحكومة، من وجهة نظر “حزب الله” وتوابعه.

هناك من يشكل لسعد الحريري حكومته. وهذا ما لا يمكن أن يقبل به الرجل الذي لديه نظرة مختلفة لما أسفرت عنه الانتخابات. في أساس النزاع القائم سؤال ما يزال مطروحا منذ العام 2005، تاريخ اغتيال رفيق الحريري. هل لبنان بلد عربي أم تابع لمحور تابع بدوره لإيران؟

لم تعد المسألة مسألة تشكيل حكومة بمقدار ما صارت مسألة مرتبطة بمستقبل لبنان. من يريد حماية مستقبل لبنان لا يتحدث عن انتصارات وهمية حملت الويلات على البلد، ولا يتحدث عن تفسير خاص به لنتيجة الانتخابات النيابية، أجريت وفق قانون عجيب غريب، تعني بين ما تعنيه أن في استطاعة سعد الحريري الاكتفاء بموقع رئيس مجلس الوزراء ولكن من دون الصلاحيات المنوطة بهذا الموقع السنّي.

مطلوب من سعد الحريري “إدارة” جلسات مجلس الوزراء وليس أن يكون رئيسا لمجلس الوزراء. عليه الاكتفاء بجائزة ترضية تتمثّل في الموقع الذي هو فيه وليس الصلاحيات التي يسمح له هذا الموقع بممارستها، بما في ذلك تشكيل حكومة معقولة ومقبولة “وفاقية” بالفعل تعكس حقيقة التوازنات القائمة في البلد.

باختصار شديد، لم يُفجّر موكب رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005  كي يأتي سعد رفيق الحريري في السنة 2018 ويقول إن لبنان بلد عربي قابل للحياة، بل قادر على الاستفادة من كلّ ما يدور في المنطقة شرط توفر حدّ أدنى من الاستقرار والأمن والوعي السياسي… والتواضع على وجه التحديد.

هناك منذ اغتيال رفيق الحريري وحتّى قبل ذلك، منذ التمديد لإميل لحود تحديدا، محاولة انقلابية تستهدف وضع اليد على لبنان. لم تكن التغطية التي وفّرها النظام السوري للذين نفذوا عملية التفجير سوى جزء صغير من هذه العملية التي أخذت مداها بعد فرض حزب الله رئيسا للجمهورية على اللبنانيين. وقد سار سعد الحريري في هذا الخيار بعد اتفاق معراب (المصالحة بين “القوات اللبنانية” و“التيار الوطني الحرّ”) من جهة ومن أجل تفادي الفراغ الرئاسي الذي طال أكثر مما يجب من جهة أخرى.

مطلوب من سعد الحريري “إدارة” جلسات مجلس الوزراء وليس أن يكون رئيسا لمجلس الوزراء. عليه الاكتفاء بجائزة ترضية تتمثّل في الموقع الذي هو فيه وليس الصلاحيات

لم يوجد من يريد التخلّص من رفيق الحريري من أجل أن يتمكن مشروع البناء والإعمار الذي بدأ في العام 1992، وتوّج بإعادة الحياة إلى بيروت، من التقاط أنفاسه. كان مطلوبا أن تستمرّ عمليات الاغتيال بعد تفجير موكب رفيق الحريري. كان مطلوبا افتعال حرب مع إسرائيل من أجل تدمير البنية التحتية للبلد ومن أجل أن يعلن “حزب الله” عن “نصر إلهي”، تبيّن في نهاية المطاف أنّه انتصار على لبنان واللبنانيين.

مطلوب تعميق الجروح التي يعاني منها لبنان بكلّ طوائفه وجعله أسير أزمة كهرباء ومياه وتلوّث وطرقات. مطلوب أن يهاجر اللبنانيون من لبنان وأن لا يبقى فيه سوى العاملين في خدمة المشروع التوسّعي الإيراني الذي عرف كيف يكون المستفيد الأوّل من اغتيال رفيق الحريري. هذا المشروع لا يعيش إلّا بفضل ميليشياته المذهبية التي باتت تتحكم بالعراق فيما تعتبر نفسها صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في لبنان.

ما ينساه “حزب الله” هذه الأيّام أن هناك قراءة أخرى لنتيجة الانتخابات النيابية. هذه النتيجة لا تسمح له بتهميش سعد الحريري. كذلك ليس في الوضع الإقليمي ما يشير إلى أنّ النظام السوري استعاد حيويته وعافيته. هذا النظام صار في مزبلة التاريخ منذ فترة طويلة. من لا يعترف بأنّه نظام مرفوض من الشعب السوري، بأكثريته الساحقة، لا يعرف شيئا عن سوريا وذلك على الرغم من كلّ الكوارث التي حلّت بثورة شعب يسعى إلى استعادة بعض من كرامته منذ شهر آذار – مارس من العام 2011.

إذا كان من جديد في سوريا هذه الأيّام، هذا الجديد لا تختزله فقط المجزرة المشتركة لـ“داعش” والنظام في حقّ مدينة السويداء ذات الأكثرية الدرزية. كشفت المجزرة التي استهدفت طائفة صغيرة، لكنّها أساسية في المنطقة، عمق العلاقة بين النظام السوري ومن قام بدعمه من جهة و“داعش” من جهة أخرى.

هناك جديد آخر يتمثّل في الدوريات الروسية في الجولان. باتت روسيا من يحمي اتفاق فكّ الاشتباك الذي كان وراءه هنري كيسينجر في العام 1974. في حال كان لا بدّ من الكلام عن انتصار في سوريا، فهذا الانتصار هو للحلف الإسرائيلي – الروسي – الأميركي. ليس هناك ما يدعو “حزب الله” إلى الاحتفال بهذا الانتصار الذي يعني عمليا أن الجولان المحتلّ صار قضية منسية. الأهمّ من ذلك كلّه، أنّ ليس هناك ما يسمح في لبنان بتشكيل حكومة تابعة لـ“حزب الله” تكون برئاسة سعد الحريري.

نعم، هناك قراءة أخرى لنتيجة الانتخابات وللوضع السوري. تسمح هذه القراءة لسعد الحريري بالصمود. هذا ليس عائدا إلى أنه مكلف بتشكيل الحكومة حسب الأصول الدستورية وليس في استطاعة أي جهة أن تسحب منه التكليف فحسب، بل لأنّ لبنان لم يسقط نهائيا بعد.

لبنان ما زال يقاوم على الرغم من كلّ الأزمات التي يعاني منها، على رأسها الأزمة الاقتصادية. لم يعد سرّا أن هناك فارقا ضخما بين تشكيل حكومة شبه معقولة وبين حصول الانهيار. هل من طرف يستطيع تحمّل النتائج التي يمكن أن تترتب على الانهيار الذي يبدأ بدخول لبنان، أو إدخاله، في لعبة إيرانية لا أفق من أيّ نوع لها.