سمير عطا الله يكتب:
الزعيم والإنسان: يبكي ويضحك معاً
امتدت حياة الحبيب بورقيبة سحابة القرن؛ بدأت أوائل القرن العشرين وانتهت في أيامه الأخيرة. كان يغلب عليه النعاس، وعندما يفيق يلقي نكتة ساخرة حول حكم خلفه؛ زين العابدين بن علي، الوزير الذي أطاحه.
لم يكن سي الحبيب يتوقع، أو يصدق، أنه يمكن فصله عن زعامة تونس، فهو «المجاهد الأكبر» الذي قادها نحو الاستقلال. وهو الذي من أجل حريتها، عرف السجون الفرنسية والمنفى في القاهرة وبيروت. وكان هذا المحامي الشاب حركة لا تكلّ ولا تملّ. وعندما أصبح رئيساً، تضاعفت حيويته وزادت حدة صوته خطيباً بارعاً، يدرك مدى قوة هذا السلاح.
ويقول أحد معاونيه إنه كان يتقن الخطابة لدرجة مسرحية. وكان واثقاً بقدرته على اجتذاب جمهوره مبتكراً أسلوباً إشارياً خاصاً. فكان يعرف متى يرفع ذقنه ومتى يحملق وينتقل من اللهجة المؤثرة إلى الأسلوب الهزلي، ومن الوعظ والتأنيب إلى التواضع، ومتى يتعاظم كالأسد أو يتمسكن كالسائل إلى ربّه. ولم تكن قط كلمات هذا الخطيب الشعبي تدور على وتيرة واحدة؛ إذ كانت محادثاته الخاصة أو خطاباته في الناس موشّاة بالصيحات أو الضحكات أو الدموع. كما كان بإمكانه السيطرة على مشاعره، أو البوح بها. وكان يستطيع أن يذرف الدمع لساعته، وأن ينتقل دون تمهيد من الغضب إلى الرأفة والبكاء. وقد اعتاد أن يربت على خد محادثيه لملاطفتهم والإعراب عن رضاه. وكانت نشرات التلفزة تبرز هذه المشاهد التي تثير تعليقات كثيرة.
كما كان بورقيبة خطيباً بليغاً، فنادراً ما يهيئ نصاً مكتوباً، وإن سجل بعض الملاحظات أو حرر مذكرة، فإنه يتركها جانباً مفضلاً الارتجال. وكان عشية أي خطاب يأكل القليل، ويظل يتمشى في الأروقة للتأمل والتفكير في الموضوع الذي شغل باله. وكان يقضي ساعات منغمساً في تأملات عميقة يتخللها غالباً ترنم بأغان قديمة. ولم تكن خطاباته مفرطة في طولها، ولا يستمع ثانية لما ألقاه، وذلك بخلاف غيره ممن يضاهونه في نرجسيته. وكان يفضل المساحات الكبيرة والتجمعات الضخمة في الهواء الطلق، أو داخل قاعات شامخة. وكان يلبس الطربوش الأحمر للتعويض عن قامته القصيرة، ويحمل لحافاً أبيض ليزداد إشراقاً على الخلفيّة الداكنة من الجماهير المحتشدة.
*الشرق