فاروق يوسف يكتب:

ليست بغداديات

زرت معرض بيكاسو في تيت مودرن بلندن مرتين، المعرض يضم نتاج الفنان في سنة واحدة هي 1932، السنة التي تعرف فيها على واحدة من أجمل نسائه ورسمها.

بين لوحة وأخرى لا يتكرّر بيكاسو وإن كان الموضوع نفسه، شيء إعجازي لا يقدر عليه سوى الفنان الإسباني، ينتقل صاحب جورنيكا بين الأساليب غير أن بصمته تبقى واحدة.

انتبهت إلى لوحة ذكرتني بلوحات العراقي الرائد جواد سليم التي أجهل من أطلق عليها تسمية “البغداديات”، هل هو الرسام أم هو أحد النقاد الذين كتبوا عن تلك التجربة التي لعبت دورا كبيرا في انطلاق الحداثة الفنية بالعراق في منتصف خمسينات القرن الماضي؟

كانت لوحة بيكاسو تلك هي الأصل الذي استند إليه سليم في تنويعاته الخطية واللونية، كل ما كُتب عن علاقة رسوم جواد بالتراث المحلي كان محض خيال، لقد أخفى جواد حقيقة مرجعه التصويري فصار الآخرون الجاهلون بذلك المرجع ينبشون بحثا عن مرجعيات محلية، وهو ما قادهم إلى مواقع لم يكن جواد نفسه قد وصل إليها.

حين رأيت لوحة بيكاسو أدركت أن الجهل يمكن أن يصنع سياقا معرفيا، هناك حقائق كثيرة تستند إلى الزيف.

في حقيقته فإن جواد سليم، وهو الذي عاش في باريس كان قد رأى لوحة بيكاسو وتأثر بها، غير أنه لم يخبر مَن رأوا رسومه بمرجعيته، وهو ما يفعله معظم الرسامين، تلك ليست مشكلة.

وليست مشكلة أن كمّا هائلا من الصفحات التي كتبت عن علاقة رسوم سليم بالتراث سيكون مصيره النسيان، غير أن مشكلتي تكمن في مَن يرفض النظر إلى ذلك الاكتشاف باعتباره مناسبة لإعادة قراءة تاريخ الحداثة الفنية في العراق.

هناك مَن اتهمني بالخيانة، خيانة مَن؟ لقد تبيّن لي من ردود الأفعال الغاضبة أن لا أحد يرغب في إعادة قراءة التاريخ إذا ما توفرت وثائق جديدة، يفضل البعض القبول بالزيف المريح على معرفة الحقيقة التي قد لا تسرّ.