رشيد الخيُّون يكتب:

جيفرسون.. الحقوق المدنية للأديان كافة

لم يحرص الرَّئيس الأميركي الثَّالث توماس جيفرسون (1801-1809) على اقتناء نسخة مِن القرآن الكريم، إلا لأنه، كسياسي طموح ومثقف، يرنو إلى تأسيس دولة مدنية تضم الجميع. لهذا تحرك مبكراً في التَّخفيف مِن الرِّق، ومعالجة قضية الهنود الحُمر، ولأنه كان صاحب اطلاع على ثقافات الشُّعوب، وذا اتصال مع الحكام المسلمين بشمال أفريقيا، طرأ على باله أن المسلمين سيكونون جزءاً مِن تركيبة المجتمع الأميركي، إلى جانب بقية الأديان، فماذا على الدَّولة توفيره، مِن دستور مدني يحفظ حقَّ الجميع، وأن لا يكون الحُكم دينياً، فيصبح التعامل على أساس العقيدة لا المواطنة.


فعندما يجري الحديث عن أغلبية دينية أو مذهبية، يكرس القانون حرية الأغلبية في فرض مقدساتها وتقاليدها، وهنا لا نقصد فرض العقيدة، إنما الهيمنة على الدَّولة بعذر حقِّها في ممارسة المقدسات في الدَّائرة الرَّسمية والمدرسة والطَّريق، فمناسبتها عطلة للدَّولة، وعيدها عيد الدَّولة، فلا تبقى قيمة للشعور بالمواطنة، ولا ما يُتبنى مِن طريق الدَّيمقراطية في الحُكم معنى، ولو أن الولايات المتحدة، وبقية الدُّول المتقدمة، ذات التَّنوع الدِّيني والمذهبي، كرست دستورها وقوانينها على أساس الدِّين والمذهب، لما وصلت إلى ما هي عليه.
كانت هذه الأفكار حاضرة في ذهن أحد بُناة الولايات المتحدة الأميركية، وكاتب لائحة استقلالها (1776)، هذا ما تحدثت عنه المؤلفة الأميركية دينيس أ. سلبيرج، الأستاذة المشاركة في تاريخ ودراسات الشَّرق الأوسط في جامعة تكساس، في «جيفرسون والقرآن.. الإسلام والآباء المؤسِّسون»، الصَّادر بالإنجليزية عن دار «نوبف» بنيويورك (2013)، ثم أصدرت دار «جداول» نسخته العربية (2015)، تولى ترجمته فؤاد عبد المطلب. 


مع علمنا أن المؤلفة صبت اهتمامها على الدِّراسات الإسلامية، فلها كتاب سابق تحت عنوان «السياسة والتَّذكير والتَّأنيث والماضي الإسلامي.. تُراث عائشة بنت أبي بكر». كان كتاب «جيفرسون والقرآن...» بحق دراسة رصينة، درجت المؤلفة على التَّوثيق، لم تترك صغيرة وكبيرة دون إحالة، فمِن الواضح كان عملها مضنياً وشاقاً، ساهم في مراجعته جمهرة مِن المختصين والأكاديميين.
كان اهتمام جيفرسون المبكر بالإسلام والمسلمين دفع البعض إلى اعتباره مسلماً، ويعني هذا الاعتبار في القرن الثَّامن عشر، وفي الوسط الإنجيلي والكاثوليكي، الكثير سلبياً، على شخصية سياسية تطمح لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية. ربَّما لم يتوصل جيفرسون إلى فكرة بناء الدَّولة والأُمة المختلطة، إلا بعد تأثره بالفيلسوف البريطاني جون لوك (ت1704)، فقد أخذ يقتبس من مؤلفاته فكرة المدنية في الحُكم، خصوصاً رسالته في «التّسامح». هنا يأتي دور التعاضد بين المثقف والسياسي أو الحاكم الرَّاشد، إن صحت العبارة، وهذه الثنائية ساهمت بنقل أوروبا من الحروب الدِّينية الطويلة، وظروف التعصب الدِّيني والمذهبي القاسية إلى رحاب المدنية في الحُكم وإدارة المجتمع. فترى جيفرسون يقتبس عبارة «لوك» المهمة في طرح التسامح الديني: «يجب عدم استثناء الوثني والمحمدي (المسلم) واليهودي مِن الحقوق المدنية للكومنولث بسبب دينه».


أقول: كيف لو توزعت المناصب الأميركية، قبل أن يتداركها أمثال جيفرسون، على الأديان والمذاهب، لاشترطت بالرئيس الكاثوليكية، ورئيس الكونجرس البروتستانية، ورؤساء البلديات توزع على المحاصصة الدينية والمذهبية، فهل لكم تصور بقاء دولة اسمها الولايات المتحدة الأميركية، أم أنها تتبخر مثل دول عديدة، لم يبق منها سوى الأسماء. فإعمار الأوطان، في الحقول أو الرمال، لا يحققه إلا مَن لديه حرص وإصلاح جيفرسون، مهمة صعبة «إذا لم ينلها مصلحون بواسل/جديرون في ما يدعون كفاة» (الجواهري، الرَّجعيون).


تقول المؤلفة، في كتابها المذكور، عن نباهة جيفرسون في بناء دولة المواطنة: «لما كان معظم الأميركيين جاهلين، أو مضللين، أو ببساطة خائفين مِن الإسلام، تخيل توماس جيفرسون المسلمين مواطنين مستقبليين لأمته الجديدة، وقد بدأ ارتباطه بالدِّين مع شراء قرآن، قبل إحدى عشرة سنة مِن كتابته لإعلان الاستقلال، ولا يزال قرآن جيفرسون في مكتبة الكونجرس، مشكلاً رمزاً لعلاقته المعقدة هو وأميركا المبكرة مع الإسلام وأتباعه».
كان وراء طرح قضية إشراك المسلمين في الأُمَّة الجديدة، وجود مسلمين آنذاك بين المهاجرين، وإنْ كانوا بأعداد محدودة، ثم طرح المشكلات مع طرابلس الغرب عن حرية التجارة والتعامل مع السُّفن الأميركية المارة في البحر الأبيض المتوسط. كذلك كان الدَّافع هو محاولة تجنب العنف بين المذاهب المسيحية بأوروبا آنذاك، ونقلها إلى التَّجربة الأميركية، فعلى حد قول المؤلفة: «أن يكون المسلمون القضية القياسية لتعيين الحدود النَّظرية لتسامحهم مع جميع المؤمنين».


ليس هناك تأكيد على نجاة نسخة القرآن ضمن الحريق الذي أحال مكتبة جيفرسون وأثاث منزله إلى رماد (1770)، أو أنه اقتنى نسخة أُخرى، تلك التي أقسم عليها اليمين «كيث إليسون»، أول عضو مسلم في الكونجرس الأميركي (2007). إنها اللَّحظة التي وضعها جيفرسون أمام عينيه قبل أكثر من مئتي عام، عندما جهز بلاده لمواجهتها، بإقرار الحقوق المدنية للأديان كافة.

نقلا عن "الاتحاد"