عبدالله السناوي يكتب لـ(اليوم الثامن):

أربعينية «كامب ديفيد»

ران صمت كامل على اجتماع مجلس الأمن القومي المصري الذي دعا إليه الرئيس أنور السادات يوم ٥ نوفمبر ١٩٧٧.
كانت المفاجأة صاعقة وهو يقول: «أنا مستعد أن أذهب إلى القدس، وأن ألقي خطاباً في الكنيست «الإسرائيلي»، إذا كان ذلك يمكن أن يحقن دم أولادي».
كانت تلك المرة الأولى التي ترد على لسانه هذه العبارة الفارقة، قبل أن يرددها بحذافيرها بعد أربعة أيام في خطاب ألقاه أمام مجلس الشعب. السادات لم يوضح تماماً ما يعنيه.. «لم ير أن يُعطينا فرصة التعليق على ما قاله، أو مناقشته»، كما تؤكد مذكرات وزير الخارجية إسماعيل فهمي.
قرار انفرادي دون أدنى مناقشة في أعلى المستويات المعنية بالأمن القومي، ودون علم وزير خارجيته الذي كان برفقته في جولة خارجية، بوخارست أهم محطاتها.
كل ما جرى في ذلك الاجتماع إشارات وتلميحات وإيحاءات غامضة، لما أسفرت عنه مباحثاته مع الرئيس الروماني نيكولاي شاوشيسكو، وإلى الإطار العام لاقتراح رئيس الوزراء «الإسرائيلي» مناحم بيجين، حول الخطوط العامة للكيان الفلسطيني الجديد.
حسب مذكرات إسماعيل فهمي، فإن وزير الدفاع الفريق أول عبد الغني الجمسي، قطع الصمت المطبق من فرط الصدمة. صاح فجأة وهو يلوح بذراعيه: «لا كنيست.. لا كنيست.. ليس هذا ضرورياً».
كان الجمسي، كما يصفه إسماعيل فهمي، «من الرجال الذين يلتزمون النظام بصورة تامة، فلم يكن يتدخل في الحديث، أو يُشعل حتى سيجارته، قبل الحصول على إذن، لكنه في هذه اللحظة خشي أن يكون السادات يعني ما يقول».
لم ينبس أحد آخر بكلمة واحدة، ومضى السادات يتكلم في موضوعات أخرى، وكأنه لم يسمع ما قاله وزير الدفاع على الإطلاق.
عندما أعلن السادات ذات العبارة مرة أخرى، من على منصة مجلس الشعب، تصادف أن الجمسي كان بجوار إسماعيل فهمي على مقاعد الوزراء، فمال على وزير الخارجية هامساً: «ها هو يقولها مرة أخرى!».
وزير الخارجية مع ذلك كله لم يأخذ الأمر جدياً.. وبعد أن انتهى السادات من إلقاء الخطاب، توجه إلى البهو الملحق بالمجلس، وهناك قال صائحاً أمام الجميع: «لقد كانت زلة لسان.. أرجوك يا إسماعيل أن تحذف هذه الجملة من الخطاب».
نفذ إسماعيل فهمي التعليمات فوراً، وطلب من رؤساء تحرير الصحف أن يتجاهلوا هذه العبارة الخاصة بزيارة القدس والكنيست. غير أن السادات عاد بعد قليل، فور أن نشرت وكالات الأنباء والمحطات التلفزيونية العالمية الخبر، وطلب من نفس رؤساء التحرير أن يتجاهلوا تعليمات وزير الخارجية!
بمثل هذه الطريقة أديرت أخطر قرارات الصراع العربي «الإسرائيلي». لم يكن يناسب شخصاً محترفاً في كفاءة إسماعيل فهمي، أن يتغاضى لا عن «الأسلوب» ولا عن «المنهج».. ولا أن يغمض العين عن «النتائج الوخيمة» المتوقعة.. فاستقال.
لنفس الأسباب استقال معه محمد رياض، وزير الدولة للشؤون الخارجية. رغم أن الدكتور بطرس غالي، الذي صعد إلى قمة جهاز الخارجية المصرية في أعقاب الاستقالتين، كان مقتنعاً بما أقدم عليه السادات، إلا أنه وجد نفسه عضواً فيمن كان يسميهم ب«عصابة الخارجية»، أو «الميكانيكية»، نسبة إلى التعبير الإنجليزي الشهير «الميكانيزم» أو «الآلية»، الذي كان يستخدم وقتها على نطاق واسع في أوساط المثقفين والدبلوماسيين!
لم يكن بوسع الدكتور غالي، بخلفيته الأكاديمية أن يغض الطرف، كما جاء في مذكراته، عن الأداء الهابط لكثير من مشاهد المفاوضات.
بتعبير الجمسي عن مفاوضات الكيلو (١٠١)، التي استبقت توقيع «كامب ديفيد» بفترة طويلة نسبياً: «كنت أتفاوض مع وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر.. بينما النتيجة معدة سلفاً بينه وبين الرئيس السادات».
أكد كيسنجر في مذكراته ما قاله الجمسي: «لم أعد وسيطاً بين مصر و«إسرائيل».. بل بين السادات و«إسرائيل» من جهة، والوفد المصري من جهة أخرى».
هكذا أديرت المفاوضات المصرية «الإسرائيلية»، التي توجت باتفاقية «كامب ديفيد» قبل أربعين سنة تحت رعاية الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، وأدت إلى استقالة وزير خارجية ثالث.
بشهادة الوزير المستقيل محمد إبراهيم كامل، في كتابه «السلام الضائع»، فإن السادات أقدم على تنازلات جوهرية عديدة لإرضاء الرئيس الأمريكي، دون اعتبار لأية مصالح مصرية.
الشهادات والوثائق متوافرة لمن يطلب الحقيقة، ومعرفة ما جرى لنا وبنا على مدى أربعة عقود. رغم ذلك كله فهناك من يحتفي اليوم بمنح السادات ميدالية الكونجرس الأمريكي في أربعينية الكارثة التي حلت بنا.
بمضي الوقت استقرت حقائق المشروع المضاد، ووقعت اتفاقيات مماثلة نزعت عن العالم العربي اعتباره ومناعته.
أسس تفكيك الاقتصاد الوطني باسم الانفتاح الاقتصادي، لطبقة جديدة وظيفتها مساندة نوع معين من السلام. وأسس تفكيك نظرية الأمن القومي باسم السلام مع «إسرائيل»، لتتراجع المكانة المصرية في محيطها وقارتها وعالمها الثالث.
لم تكن محض مصادفة، أو سوء تقدير، حملة الاعتقالات التي شنها السادات في سبتمبر ١٩٨١. الضيق بالمعارضة اعتراف عملي بحجم التنازلات التي قدمت، والاعتقالات الواسعة بدت علامة نهاية.
«ما هذا القرار أيها الرجل؟! تعلن ثورة في ١٥ مايو، ثم تصفيها في ٥ سبتمبر؟
تزج بالمصريين جميعاً من مسلمين وأقباط، ورجال أحزاب ورجال فكر، في السجن»؟
«لم يعد في ميدان الحرية إلا الانتهازيون». كانت تلك عبارة احتجاج على اعتقالات سبتمبر أوردها نجيب محفوظ، على لسان الجد الوفدي، محتشمي زايد، في روايته: «يوم قتل الزعيم».