فاروق يوسف يكتب:
ربيع عربي لكن بحقائق ناقصة
بعد ما تبين من أحوال الربيع العربي فإن كل الكلام الذي قيل عن الشعوب التي تريد تغيير الأنظمة السياسية باعتباره نوعا من المسلمات والبداهات لم يعد له أي معنى. فهو بقدر ما يعبر عن سذاجة في النظر إلى الوقائع من داخلها فإنه يعبر عن عدم معرفة بالحدود التي يمكن أن تصل إليها رغبات وطموحات وأماني تلك الشعوب.
لقد قادت الحماسة الكثير من مثقفي العالم العربي إلى المبالغة في النظر إلى ما جرى وتأويله وهو ما دفع أولئك المثقفين إلى إضفاء هالات زائفة على التغيير، كونه استجابة لإرادة شعبية كانت قد تبلورت حتى ظهرت على شكل احتجاجات لم تستطع الأنظمة السياسية مقاومتها وأخلت الطريق أمامها فقُتل مَن قُتل وهرب مَن هرب وخُلع مَن خلع وسُجن مَن سُجن.
وهو استنتاج ليس صحيحا.
سيكون علينا في المستقبل القريب أن نقتنع أن الامر كله كان عبارة عن انقلابات غطيت بواجهات شعبية، لم تظهر بشكل عفوي وتلقائي بل دُبرت بطريقة متقنة لتبدو كما لو أنها نوع من الحراك والانفجار الشعبيين اللذين حدثا فجأة من غير أن يسبقهما أي تمهيد يشير إليهما.
كل ما قيل عن استحقاقات التحول كان صحيحا، غير أن من غير الصحيح أن تكون الشعوب التي خضعت لثقافة الاستبداد زمنا طويلا قد أدركت ضرورة ذلك التحول واستيقظت من سباتها كما لو أنها شخص استعاد وعيه بعد غيبوبة. وإذا ما رغبنا في التفصيل أكثر يمكننا القول إن شعوبا خائفة لا يمكنها أن تتحد في مواجهة أنظمة أذلتها واستعبدتها وصادرت كرامتها لتطالب بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
لو انحصرت المطالبات الشعبية أثناء وقائع الربيع العربي بالحاجات الأساسية كالأكل والسكن والعمل لصدقنا أن الشعوب التي نعرفها هي التي خرجت إلى الشوارع وصرخت محتجة. اما أن تتقدم المطالبة بالحرية على المطالبة بالخبز فذلك كلام مثقفين لا أعتقد أن في إمكان أحد من الشعب أن يفهمه. فهل يمكن أن يخرج المرء مضحيا بنفسه من أجل المطالبة بشيء لا ينفعه في حياته اليومية ولا يمكنه تصريف شؤونه من خلاله؟
أعتقد أن المتحمسين لمشروع الربيع العربي قد ضللوا وخدعوا الشعوب حين وضعوها في مكان، هو آخر مكان يمكن أن تحلم تلك الشعوب بالوصول إليه.
كانت الشعوب في الصورة وهي تهتف بشعار "الشعب يريد اسقاط النظام" ذلك أمر لا يمكن إنكاره. غير أن الشك يكمن في ما سبق تلك الصورة ورافقها وما نتج عنها.
وكأي ممثل فإن الشعوب أدت دورها بإتقان وحين أنجزت مهمتها في اسقاط الأنظمة التي أخذت معها تراث الدولة وتقاليدها عادت إلى بيوتها لتتأكد من أنها فعلت الأسوأ حين صارت تتلفت حائرة في مواجهة غياب الأمان واستشراء الفساد في الطبقات السياسية الصاعدة التي استلمت السلطة على آنية من ذهب من غير أن تكلف نفسها أي عناء يُذكر.
لقد انتفضت الشعوب العربية من أجل أن تُسلم قيادها للفاسدين.
هل يمكن القبول بقناعة بذلك الاستنتاج؟
هناك الكثير من الأسئلة المجاورة. هناك الكثير من علامات الاستفهام. هناك الكثير من الشك في حقيقة ما جرى. فالأهداف التي كانت وراء الربيع العربي ليست حقيقية من جهة انتسابها إلى المطالبات الشعبية. مَن قال إن الشعوب العربية تفكر في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. هناك الكثير من الكذب في ذلك القول.
لا أصدق أن الأنظمة السياسية العربية التي أزيلت قد أخذت على حين غرة كما يُقال وفوجئت بالأحداث بحيث استسلمت وانهارت بعد أن فقدت القدرة على المواجهة. ذلك أمر يتنافى مع قدرات تلك الأنظمة الأمنية والاستخبارية ومن ثم العسكرية.
لقد قضى صدام حسين وقد كان مهزوما عام 1991 على الانتفاضة الشعبية التي حدثت جنوب العراق في ظرف أيام قلائل. لذلك فإنه ليس من المعقول أن يستقل الرئيس التونسي طائرته هاربا ويضطر حسني مبارك إلى الاستقالة ويظهر القذافي مثل فأر مذعور ويتخلى علي عبدالله صالح عن الرئاسة خوفا من أصوات المحتجين.
هناك حقائق ناقصة في ما يتعلق بـ"الربيع العربي".
حقائق لن يتم الكشف عنها إلا إذا استعادت النخب الثقافية وعيها وعادت إلى رشدها وكفت عن الخداع والتضليل والمبالغة.