أحمد عبداللاه يكتب:

سرداب إسطنبولي وخاشقجي "مهدي جديد" في المنطقة

قضى جلّ حياته الإعلامية مدافعاً عن المملكة السعودية وسياساتها وحكامها ونظامها ولم يتجلّ أو ينكشف لديه الرشد الإصلاحي والحقوقي "الداخلي" إلا بعد الموقف السعودي المعلن من جماعة الإخوان المسلمين ومقاطعة دولة قطر. مع ذلك كانت لغة جمال خاشقجي الاعلامية ناعمة ومتوازنة وكأنه يتبنى مقاربة الشجرة التي تختفي وراءها الغابة.

لكن التحول التدريجي نحو وضوح الموقف وخلفياته وعلاقاته وارتباطاته انعكس مؤخراً في أداء الرجل حين أصبح، ليس فقط مسنود "مؤسسيا" من دولة / دول في الإقليم، وإنما القلم الذي فتحت له كبريات الصحف الأمريكية أبوابها ونوافذها و شرفاتها بحفاوة بالغة، لهدف واحد وجلي وهو نقد النظام السعودي. وكأنها تقدم "الصوت المعارض الأكثر عقلانية وواقعية"، الذي يجب أن تلقى أفكاره رواج كبير في دوائر الحكم الغربية، وفي مقدمتها أمريكا. وهكذا وقع الرجل في "فخاخ الأدواتية" وكأنه يقول لذاته: من قال ان السروج الذهبية لا تصنع جيادا متألقة حتى وان كانت تعاني من اضطرابات جينية؟ فأصبح، في صف الخصوم، مصدر قلق كبير للمملكة خاصة وأنه مكمن معلومات منذ حرب أفغانستان وعلاقاته بالجماعات والتنظيمات الإسلامية واطلاعه على مواقف بلاده واياديها ووسائلها، ما ظهر منها وما بطن، في كل علاقاتها وصراعاتها منذ مطلع الثمانينات أثناء الانعطافة الحرجة في مسار التاريخ الحديث للمملكة.


في المقابل اعتبر كثيرون أن حرية الرأي عند الرجل التي تأتي من بوابة قطر وتركيا والإخوان والحزب الديمقراطي الأمريكي والميديا المرتبطة، إنما هي في حقيقة الأمر حرية "مؤدلجة" في سياق الهزات المرتدة لزلزال "الربيع العربي"، و موجهة فقط ضد بلاده المملكة السعودية التي أنشأته وجعلته واحد من أهم "أبناء النظام"، ونجم إعلامي رائد، مُسخّرة له كل المنابر المقروءة والمرئية.


خاشقجي بصفته الفردية لا يمثل قيمة استراتيجية كمحلل سياسي، وليس من رواد الفكر والثقافة وعلوم السياسة والاجتماع والفلسفة في هذا الشرق الحزين، بل هو صحفي أتيحت له وسائل لم تتح لغيره وأكثر ما مثله قبيل رحيله -إن كان قد رحل- هو أنه أصبح أداة مزعجة للنظام في السعودية، لأنه صار جرم مضيء في فضاء الإعلام الذي يروج لفكرة حقوق الإنسان والإصلاحات والحريات والتغيير في الشرق الإسلامي.
وهو حق يراد به شيء آخر. والشيء الآخر لم يعد خفياً. فالغرب، استناداً إلى أفكار بعض المؤرخين والمختصين في الدراسات الاستشراقية، مهتم للغاية بنقل تجربة أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية إلى دول الشرق الأوسط، من خلال دمج التراث السياسي الإسلامي بالمفاهيم الليبرالية الغربية وإنتاج تجربة مشابهة للأحزاب المسيحية الأوروبية التي برزت بعد الحرب وتفاعلت مع مسار العملية الديمقراطية وحركة الواقع السياسي والاقتصادي في دول أوروبا مع احتفاظها ببعض المعايير السائدة في الثقافة المسيحية. يرافق ذلك بالطبع الترويج لفرضية أن تمكين الإسلام السياسي من الحكم يؤدي إلى وضع معالجات تاريخية للإرهاب الديني من خلال تدجين الفكر الإسلامي المتطرف.

إلا أن تلك الرؤية فشلت في استيعاب الفوارق الكبرى بين المجتمعات الاسلامية والمسيحية بمحتوياتها السوسيولوجيّة وثقافاتها الدينية وتراثها.. خاصة وأن الغرب اجترح مراحل صعبة ومعقدة حتى راكم تجارب هائلة مكنته من التنوير والنهوض ولم يصل الى مرحلة ما بعد الحرب الثانية إلا وقد خلف وراءه تاريخ من التطور العلمي والحضاري. بينما ظل الشرق يعاني من مراحل الانحطاط التي أنهكته وأخمدت بداخله كل تواريخه المضيئة. وما يحتاجه الآن هي تحولات عقلانية متأنية بعيدا عن الصدمات الثورية العالية التي تجعل منه وعاء للفوضى، يقتتل فيه ويتشرد منه الملايين، وتعاد على قيعانه غربلة "الديموغرافيات" وفقاً للهويات الطائفية.

هذه المقاربات الغربية التي تبناها بقوة الحزب الديمقراطي الأمريكي، وكانت المحرك الرئيس له في دعم الربيع العربي، خدمت وما تزال تخدم دول مثل قطر وتركيا ومعهما كتلة الإسلام السياسي في العالم.
وحين يصبح إبن النظام، الذي تشبع من بنك المعلومات الظاهرة والمستترة، شفرة ناعمة حادة تتمتع بقدرة ما للتوغل في المنطقة الرخوة الحساسة للغاية، فانه بالطبع يصبح هدفاً ثميناً ليس للمملكة وحدها بل لمن يحاول ايضاً أن يستثمر غيابه (وهذا مهم للغاية). ذلك ما نراه من أدخنة الحرائق الفضائية التي جعلت من غياب الرجل فرصة استراتيجية لتحقيق مآرب شتّى. من كلّ حسب إعلامه وقواه الناعمة ولكلّ حسب حاجته.

هناك حاجة إذن إلى رمزية يتم "تحميلها" إعلاميا صفات تعكس قيم العصر، لتصبح جزء مهم من مشروع تغيير في سياق صراعات محمومة لإسقاط دول في الشرق الأوسط، وحين تصبح تلك الرمزية ضحية فإن الأطراف، ذات الفضاءات المستعرة لغيابه، تبحث عن أثمان باهظة.
فمن فعلها إذن؟ هل هي عملية استخبارية معقدة أم أنه غباء مكشوف؟
وفي كل الأحوال لم يخرج الرجل من سردابه الإسطنبولي، وربما لن يفعلها، كي ينشأ له مزار وقائم مقام. على أن الدول والمنظمات التي تتبنى قضية خاشقجي بقوة أصبحت أشد الأطراف رغبة في غيابه النهائي، ليس كرها للرجل (طبعاً) ولكن إمعانا في استثمار اختفائه أو موته أو قتله أو أي شيء من هذا القبيل.

المملكة السعودية ارتكبت أخطاء استراتيجية كبيرة محفوظة في ذاكرة التاريخ "وليس في تطبيقات آي كلاود أو الحوسبة السحابية" وظلت دولة مركزية جمدت كل أوراقها القوية كي تلعب دور "الحليف الأعزل" الذي يعتمد على القطب الأقوى في العالم، متكئة على وسادة الحاجة الاستراتيجية للغرب في بقائها بعيدة عن الهزات الكبرى لأسباب معروفة وكثيرة، دون أن تلتفت الى حقيقة أن العالم يتغير بصورة متسارعة خاصة مع الثورات التقنية والمعلوماتية التي أنتجت واقعا عصريا مغايرا يتحرك على نحو يقارب دوران الكوكب حول ذاته، ولا يحتاج إلا الى شرارة اجتماعية وسياسية لتهديد العروش الجامدة، وتلك هي القضية.

خاشقجي في مكان ما.. في سرداب أو زقاق مهجور أو في شارع منسي، أو أنه تلاشى فوق مياه البوسفور أو أي شيء آخر.. وسوف يظل إلى أجل غير مسمى "المهدي المنتظر" الجديد في المنطقة تتنازع تمثيله الدنيوي قوى إقليمية ودولية لتجني حصص لا تستحقها، تماما مثل الطروحات اللاهوتية في انتظار المنتظر، ولكن وفقاً للمنطق السياسي الحديث وبإخراج عصري.

وبغض النظر عن حكاية الاختفاء الغامض، وهل للمملكة يد في ذلك أم لا، فإنه من المهم الإشارة إلى أن هناك من يدفع أثمان باهظة لغفلة السعودية وتخبطها في ادارة الأزمات بصورة عامة، ومواقفها المعقدة والمتناقضة.. وقد حان الوقت للمراجعات واعادة تقييم التجارب القاسية و"وضع الذاكرة السياسية في حالة استنفار دائم".