فاروق يوسف يكتب :

العراق باعتباره دولة اسكندنافية

كان وزير الخارجية العراقي السابق إبراهيم الجعفري قد عرض ذات مرة أن يتم تعميم التجربة العراقية على العالم العربي ليتم التعلم منها والآخذ بها في المستقبل باعتبارها تجربة رائدة.

كان ذلك العرض السخي بمثابة لفتة كريمة من قبل رجل مسؤول عُرف بعبقريته الاستثنائية في استنطاق الحجر حتى يضحكه.

العراق الذي لم يعد عراقا هو بلد يمكن التعلم منه. تلك حقيقة لا خلاف عليها. فالدرس العراقي ينبغي أن يوضع في مقدمة الدروس التاريخية التي يجب أن تتعلم منها الشعوب كيف تحافظ على إنسانيتها وتصون أوطانها.

لقد ضاع العراق ليس لأن الاميركان أو الإيرانيين أرادوا له ذلك. تلك نتيجة وليست سببا. ما لم يكن في الإمكان قوله في الماضي خشية أن يسبب حرجا لأحد يمكن قوله الآن بعد أن عم الجهل كل مرافق الحياة هناك.

لقد تم تجهيز الطرق لكي تكون سالكة أمام الهمجية والبدائية لتشهرا أسلحتهما في وجه الحقيقة، ليس من خلال خطاب الخرافة الذي تبنته الأحزاب الدينية مدعومة من إيران حسب بل وأيضا من قبل المثقفين الذين يتداولون في ما بينهم خطابا يستند إلى فكر ما بعد الحداثة في حين تحيط بهم ثقافة الكهوف من كل جانب.

يحدثك المثقف العراقي منفصلا عن الواقع ليثبت لك أنه يعرف كل شيء وحين يُطلب منه أن يقول كلمة في ما يتعلق بالواقع الحياتي الرث الذي يعيشه فإنه يتلفت ويتلعثم ويرتبك ويتعثر ولا يعرف من أين يبدأ. ذلك لأنه لم يعد نفسه لكي يكون شاهدا على الواقع ومدافعا عن الحقيقة.

العراق الذي يقدمه المثقفون العراقيون من خلال اهتماماتهم الفلسفية اليومية هو دولة أخرى أشبه ما تكون بواحدة من الدول الاسكندنافية. إنه لا يحتاج إلى أن يشيروا إلى ما ينقصه فهو "كامل الأوصاف" لولا بعض المنغصات. لذلك فإنهم يعقدون على سبيل المثال ندوة عن الرواية والسينما في بلد أقفلت فيه دور السينما ويرفض رئيس وزرائه (فرنسي الجنسية) مصافحة النساء ويمشي فيه الفقراء مئات الكيلومترات من أجل لقاء رجل غائب منذ مئات السنين. 

اما حين يتعلق الحديث بالعراقي شخصاً فإنه كما أقرأ جميل ورقيق وعاطفي ومهذب وخجول وحساس وشاعري وأنيق وكريم وأبي ووفي وغيور وهو قبل كل شيء وريث الحضارة التي علمت العالم الكتابة واخترعت العجلة للبشرية وسنت أول القوانين.

هناك كتب ألفها عراقيون في السنوات الأخيرة لا تقول سوى ذلك. حتى المرثيات التي يكتبها العراقيون هي عبارة عن سلسلة من حلقات الغزل التي يمكن أن تزين عنق فتاة اسكندنافية.

حين تضع أمام المثقف العراقي حقائق صار العالم يتداولها بناء على صدقيتها يُظهر انزعاجه ساخرا من العقول الصغيرة التي تصدق ما تشيعه المنظمات الدولية المتآمرة على العراق. فلا أحد يعرف ما يجري في العراق غير الذي يقيم فيه. وحين تطلب منه أن يفيدك بما لديه يدخلك في متاهة الصراعات الحزبية التي هي غطاء اللعبة وليست جوهرها.

في حقيقة الامر فإن المثقف العراقي (هناك استثناءات قليلة) أما أن يكون اصلاحيا يرى أن العيب يكمن في تفاصيل صغيرة أو معلقا لا يقول إلا كلاما غامضا لا يمس به أحدا، كلاما هو أقرب إلى ما يقوله المتصوفة.

من وجهة نظري فإن أولئك المثقفين من حيث لا يدرون خدموا سلطة الأحزاب الدينية التي ضيعت العراق. لم يقولوا كلمة الحق خوفا. ذلك ما أقدره وأتفهمه. غير أنهم غدروا بالحقيقة حين زينوا الباطل الذي انزلق ببلادهم إلى أسفل سافلين من خلال احجياتهم وطلاسمهم ومرثياتهم الغامضة.

ما لا يقوله أولئك المثقفون إن العراق في حقيقة ما انتهى إليه بلد قبيح، صادم في رثاثته، مغال في فساده، وقح في تخلفه، لا إنساني في استسلامه للفقر والجهل والمرض.

العراق بلد أمي. ثلة المثقفين الذين يلتقون كل جمعة في شارع المتنبي وهو شارع الكتب لا ذكر لنسبتهم مقارنة بملايين الاميين الذين يذهبون مشيا إلى كربلاء وهم يجهشون بالبكاء.      

أتابع ما يكتب العراقيون عن بلادهم وهو لا يرقى إلى أصغر لحظة ألم مر بها العراق عبر رحلة عذابه المفتوحة على الأفاق. هل يجب أن نذكرهم بالقتلى والمغتصبات والمعتقلات والنازحين والمهجرين والمعاقين والمعتقلين والمخطوفين والمغيبين والمهمشين والفقراء ونسبتهم تشكل 30 بالمئة من الشعب العراقي حسب تصريح رسمي وبالمدن التي لا تزال مهدمة وبحدائق البيوت التي تحولت مقابر لكي يكفوا عن تكرار أسطوانة البلد الجميل "كامل الاوصاف" الذي تصعب علينا رؤيته؟