سمير عطا الله يكتب:

سيرة دولة ورجل

لا حلَّ. نحن، المعروفين بـ«المخضرمين»، كلما بهرنا الجديد سارعنا إلى المقارنة بالقديم. فالرجاء عفوكم وسماحكم. كان «شارع الجهرة» كل شيء في الكويت: شارع الفنادق. وشارع الأناقة. وشارع الجواهر. والشارع الذي يستعرض فيه الشباب سياراتهم الجديدة.
الآن مبانيه خالية وعتيقة ومعدة للهدم. ولم يبقَ من القديم في الكويت سوى بعض المحال القديمة في المنطقة الصناعية. وارتفعت في ليل المدينة مبانٍ مضاءة بألوان مثل ناطحات أميركا أو أوروبا. ولا أعرف عدد ومساحات الضواحي الجديدة، لكن كل ما كنت أذكره فضاء صحراوياً خالياً أصبح هندسيات مزدهرة من المباني والجسور، وهذا المجمع الهائل المعروف بدار الأوبرا، حيث تقام الآن أنشطة المسرح الوطني، أول المسارح الرائدة في الخليج.
وفي قاعة «جابر الأحمد»، أقامت مؤسسة «تكريم» هذا العام مهرجان توزيع جوائزها التاسع. وكان الفائزون بها مهندساً من فلسطين يبني 40 ألف شقة في كاليفورنيا، وسيدة من مصر تعرف بـ«أم الفقراء»، وعالماً من تونس يدير جامعة تضم 7 آلاف طالب. وأخبرنا هذا الرجل أنه دخل المدرسة في العاشرة من عمره عندما فتح الحبيب بورقيبة مجانية التعليم «ولولا ذلك، لكنت لا أزال راعياً في قريتي».
أُعطيت جائزة «إنجاز العمر» لأمير البلاد، الشيخ صباح الأحمد. ستة عقود من الإبحار السياسي في عالم عربي مضطرب ومفكك ومتعادٍ. وستون عاماً من دور واحد هو دور الوسيط والحَكَم والصبور على شطط الآخرين. أحب «أبو ناصر» البحر وتعلم منه. صانع الأمواج العاتية ودارى الصخور المفاجئة، وأرسى في العالم العربي مدرسة دبلوماسية لا سابقة لها.
تقيم «تكريم» مهرجانها كل عام في دولة عربية. وشملت جوائز هذه السنة مهندسة ومهندساً من السعودية، وجمعية أميركية لعمل الخير، وطبيبة من دمشق، ومنحت جائزة القيادة للراحل الكبير الشيخ جابر الأحمد. وبدا الجو في القاعة الكبرى رائعاً وطيباً، فيما العالم العربي خارجها يتطاحن، وتهده الكآبات ويسوده القلق.
لا يجوز لي، أنا الذي حملتني مهنتي إلى أرجاء العالم، أن أظل أدهش كالأطفال. ولكنني مأخوذ بصورة الكويت اليوم. وأستطيع القول بثقة وبساطة إنني لم أشاهد شيئاً مشابهاً لمبنى الصندوق الكويتي للتنمية: متحف معماري فني من عشرة أدوار وآية من آيات الهندسة.
وفي هذا المتحف شيء من كل حرفة عربية رائعة: بحرات دمشق، ونحاس فاس، ورسوم العراقيين، وسجاد مصر. ومن كل مهارة عربية تحفة. ولم يكن صاحب هذا المتحف، عبد اللطيف الحمد، حاضراً لغيابه في لندن. لكن كم يليق هذا المبنى بالمهمة الكبرى التي يقوم بها في العالم العربي منذ نصف قرن. لم أتخيل شيئاً من هذا على الإطلاق. وأتمنى أن تُضَم زيارة المبنى إلى جولات الضيوف الرسميين إلى الكويت. إنه قصر الفنون العربية المخبأة.