إبراهيم مؤمن يكتب لـ(اليوم الثامن):

الثأر غابة العالم

الثأر هو غريزة دامية جامحة متوثبة، تصدر عن النفس جهة قاتل أحد أقاربها فتقتله أو تقتل أحد أقاربه حال وفاة القاتل. ولفظ الأقارب هنا لفظ شمولي يبدأ من الفرد ويمتد مرورًا بالجماعة أو العائلة أو القبيلة أو الدولة ليقف عند أقصى مداه لمجموعة أحلاف كما حدث في الحروب العالمية الأولى والثانية.

الثأر يختلف عن القصاص في كل مرادفاته سواء معطياته أو نتائجه، فهدْر دماء القاتل بالثأر هو الوجه المزيف للقصاص، وهو فوضى دموية تحكمه تقاليد قبلية جماعية أو سجية فردية، ولا تدخل معطياته في إطار قبضة الدولة بل تتفاعل بعيدًا عنها في إطار دراماتيكي فوضوي.

لكن القصاص حياة، ويكون في قبضة الدولة لا قبضة الفرد أو الجماعة، فالدولة تقتصّ بموجب القانون الذي لا يتواءم بتاتًا وتقاليد القبائل أو العشائر.

وعلى مر تاريخ الكائنات الحية كله سواء كان إنسانًا أو حيوانًا وحتى اللحظة التي أخطُّ فيها الآن، تجد ظاهرة الثأر متجذرة في تلك الكائنات وتمارسها في لحظات التمكين، وقلما تتخلص منه إلا في أضيق الحدود مثل تبني عقيدة أو ثقافة تدفعه أو تكون غريزة مكتنفة داخل سياج الجبن فلا تنطلق بالنسبة للكائن المُكَلف.

وكلامنا سيكون مختصًا بظاهرة الثأر والانتقام التي تخص الإنسان وليس الحيوان. في عهد الإنسان الأول وهو آدم نجد مخلوقًا واحدًا وهو إبليس ينتقم من آدم في بنيه كلهم لمجرد جُرْح كبريائه وهي تُمثل أول ظاهرة انتقام خارج الأرض، وإنْ كان لغويًا في المعجم إن الثأر هو الدم بينما الانتقام فالثأر مجال من مجالاته.

ومن العصور البارزة التي تجسد مرحلة هامة من مراحل الثأر نجدها في عصور الجاهلية. فانظر لحرب البسوس التي استمرتْ 40 عامًا. وكذلك المعارك الداميه التي دارت بين الأوس والخزرج والتي بداتْ بحرب سمير وانتهتْ بحرب بُعاث.

وخروجًا عن الجنس العربي وولوجًا الى تاريخ أوروبا نجد أن المصادر التاريخية الأوربية التي وصلتنا من العصور الوسطى تدل على نشوب حروب ثأرية بين عائلات في أنحاء أوروبا استمرتْ حوالي قرنين من الزمن.

وقد تتبلور ظاهرة الثأر خارج نطاق الفرد أو القبائل العربية أو العائلات الأوربية إلى داخل نطاق الدولة أو في مدى أوسع نطاق أحلاف من عدة دول، كما أنها قد تحمل الماضي الغابر معها لعقود طوال وتلقي بظلالها في حاضرها.

نجد ذلك مجسدًا في بللورة العداءات القديمة من العصور الوسطى الغابرة لتلقي بظلالها بنشوب الحرب العالمية الأولى والتي هُزِمتْ فيها ألمانيا وحلفاؤها وفُرضتْ عليها شروط مُجحفة.

وما تركت ألمانيا ثأرها، فبعد حوالى 30 عامًا أفرز الثأر الحرب العالميه الثانية، تلك الحرب وقعت فيها أكبر مذبحة في التاريخ الإنساني، فيها شنَّ هتلر ورجال دولته حربًا ثأرية للتخلص من معاهده الذل والعار حسبما رآها ذلك الحاكم الألمانة ورجال دولته، والتي هُزمت أيضًا فيها إثر قيام الولايات المتحدة الأمريكية بالقصف النووي على هيروشيما وناجازاكي بسبب رفض اليابان الاستسلام الكامل دون شروط والتي كانت اليابان فيها مركز ثقل قوي للألمان.

ورغم مرور عقود طوال، فلا أظن أن اليابانيين أو الألمان سينسون ثأرهم، كل ما هنالك فقط أن الولايات المتحدة الأمريكية قوية بما يكفى لإخضاع هاتين الدولتين.

وفى القرن العشرين نجد هذه العمليات الثأرية التي شنتها أمريكا عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ضد المسلمين الأمريكيين والعرب.

إن الثائر يطوقه من كل الجهات بركانٌ من النيران الملتهب، هذا البركان عبارة عن حِمم يصدر من كيانه كأنها جِبلّة أو سجية طُبِعَ عليها، ويردُ من محيط البيئة الجامحة التي تحوطه بقيد من الجحيم فتحصن هذه السجية وتقويها وتدفعها نحو المزيد من العزيمة والإقدام نحو الثأر فيصبح إهدار الدماء أفراح الغد.

هذه السيكولوجية لن يكبح جماحها الدواعي الأمنية الحكومية ولا ألف مدفع فوق رأسه، المهم أن يظفر بضحيته فيقتلها. ولن تسكن هذه النفس الثائرة ولو انتظرتْ الضحية ألف عام. وكما يرث الأبناءُ الآباءَ فإن الثأر يورّثه السلفُ للخلف تِباعًا ويمتد لجيل بعد جيل.

لم تشاهد عين الثائر في زخم المكان المكتظ بالناس إلا الضحية، هذه الضحية أبصرها وكمه غيرها، وما الإبصار والعمى في هذه اللوحة ألا رسم منبثق من طموح ترعرع في نفسه حول رؤية الدم السائل على الأرض. تمتد اليد لتطلق ضربات قاتلة والتي تمثل للثائر لحظة الخلاص والتحرر من رق العار. هي لحظة ينتحر فيها الضمير ويتذأب فيها ولي الدم ويهلع فيها الضحية ولا يملك فيها إلا الهروب أو الاحتماء والتواري خلف الأستار.

أن من أشد العوامل لتفشي ظاهرة الثأر هي العصبية الجاهلية التي تبنتْ هذه الظاهرة وغذتها وحولتها لإرث يورّث للأبناء عند بلوغ سن الرشد.

ولا ننسى أيضًا دور الحكومات في هذه الظاهرة، فنشوب الصراعات السياسية في أي بلد حول الحكم قد يؤدي إلى استفحال ظاهرة الثأر، هذه الأنظمة تتخذ من هذه الظاهرة سِتارًا وعصابة لصرف الرأي العام حول قضايا الصراعات الدامية الفاضحة المتبادلة فيما بينها.أي أنها عصا موسي التي تصرف الجمهور عن جرائمهم التي استفحلتْ وتراءت للأعمى والبصير.

وهذه الأنظمة أحيانًا تعمل على دمج إحدى العشائر معها فتتخذها حِلفًا لها لتساعدها للوصول إلى الحكم أو بعض المناصب الحكومية المرموقة بطريقة غير مباشرة نظير نصرتها على عشيرة أخرى بينها وبين الأولى بعض النزاعات التي قد تمتد بعد ذلك إلى سفك الدماء التي تتبادل فيما بينهم يومًا بعد يوم حتى تمتد لسنين وقد تطول إلى عدة عقود.

وعندما يسيل دم الضحية تنهار معه الأُسر والجماعات فتتفكك المجتمعات وتنهار الحضارات بمعاول انبجاس الدماء. بل عند توسع دائرة الثأر ليشمل مجموعة من أحلاف دول تنهار الإنسانية كلها وتتذئب وتعوي في ملايين الدماء.

قد تتدخل العقيدة السماوية التي يعتنقها الثائر فتتصارع مع العادة الثأرية المتجذرة لدى القبيلة أو العائلة، فَتغلِب أو تُغلَب، وستكون الغلبة في هذا الصراع لمدى تمكن إحداها على الأخرى. وعلينا نحن أولو الألباب أن ندفع دائمًا بالعامل الديني ونؤصّله ونجعله الركيزة الأساسية في إنهاء الصراع، لأن الحافز الديني يحرّم الثأر ويحل القصاص.

أمّا مسألة التوعية الثقافية في هذه المجتمعات القبلية فرادعه ضعيف جدًا إذ إنّ ظاهرة الثأر عندهم متجذرة في قلوبهم بوصفها عقيدة تتبناها الرسل في تبليغ رسالات الله.

وليست الدواعي الأمنية التي تتخذها الدول إزاء هذه المجتمعات القبلية أحسن حالًا من التوعية الثقافية فكلاهما فاشل في معالجة هذه القضية الدموية لأنه كما قلت أن الثأر بالنسبة لهم عقيدة ورسالة إذا تركها أحد أفرادهم يسمونه بالصابئ. لقد أثبتتْ العقيدة نجاعها في القضاء على ظاهرة الثأر، فالأوس والخزرج مثلًا انتهت حروبهم تحت مظلة العقيدة الإسلامية.

إن أكثر الدول إيلامًا وتجذرًا لظاهرة الثأر هما قبائل اليمن وصعيد مصر. إن ظاهرة الثأر المتفشية فيهما قديمة جدًا بل متوارثة من جيل إلى جيل ولن يقف حمام نزيف هذه الدماء بالقوانين والدساتير الموضوعة لدى هاتين الدولتين. لا بد من إصدار قوانين خاصة لظاهرة الثأر من أكبر الهيئات القضائية في هاتين الدولتين، وأن كانت تختلف كليًا وجزئيًا عن قوانين القتل العادية. هو باب في الجنايات يدرج تحت مسمى «ظاهرة الثأر والأحكام المتعلقة به» إشارة من الهيئة القضائية أن الأحكام المتعلقة بظاهرة الثأر من عقوبات تحتلف في محتواها ومضامينها عن تلك الموجودة في جرائم القتل العادية.

ولكي نحقق العدل فجرائم القتل في الدستور منها ما يستوجب الإعدام ومنها ما يستوجب الأشغال الشاقة المؤبدة ومنها في حالات قليلة جدًا يأخذ الجاني فيها حكمًا مخففًا بالسجن لبضع سنوات ثم يعفى عنه وخاصة لو كان حسن السير والسلوك.

وقضيتنا هنا مع الحالة الثانية والثالثة لأنها لم تمثل بالنسبة للثائر زوال عاره وبالتالي يأتي القانون الجديد الخاص بأحكام ظاهرة الثأر ليمنع إهدار الدماء.

عندما تكون العقوبة أشغالًا شاقة مؤبدة فإني أرى قيام الدولة بإصدار حكم من القضاء بالإعدام تجنبًا لحدوث عقوبتين له واحدة عادلة باسم الدولة والأخرى جائرة باسم الثائر.

أما الحالة الثالثة فأرى يتم فيها احتجاز القاتل بعد قضاء العقوبة وتوفير ملاذ آمن له ولو اقتضى الأمر ترحيله خارج البلاد.