سمير عطا الله يكتب :

سيدة بألقاب كثيرة

لا تزال تمطر في الكويت، والله بالخير. وصحف الكويت هي الوحيدة التي لا تتحيَّر في البحث عن «مانشيت» الصفحة الأولى كل يوم. والعنوان دائماً محلّي في مجتمع حيوي مفتوح، يعمل ويناقس، ويناقش ويعمل، وكل رأي له جريدته والديوانية للجميع.
و«الديوانية» ظاهرة كويتية لا وجود لها في أي مكان آخر. وعندما يبني الكويتي منزله يبني الديوانية أولاً، ثم يُلحق البيت بها، وليس العكس. لها آدابها، ولها أعرافها، ولها مواعيدها، ولكل ديوانية طريقة. والنقاش هنا دليل لحمة وتوافق وليس دليل تشقق وأزمات مفتوحة بلا نهاية كما في لبنان، حيث نحتفل «بعيد» الاستقلال ونحن لا ندري أي قوة خارجية تمنعنا حتى اليوم تشكيل حكومة، لأننا لم نقرر بعد ما إذا كانت «الكتلة» البرلمانية هي ما تشكل قبل الانتخابات أم بعدها.
لا تزال تمطر في الكويت، لكن من دون بروق ورعود وزخات تحبس الناس. ولذلك؛ كان الإقبال على معرض الكتاب حسناً. وكما في كل عام، هناك مؤلف تاريخي جديد لعاشقة الكويت ومؤرِّختها، سعاد محمد الصباح. وهناك باقة شعر جديدة. وفي السابق كانت تضيف إلى الشعر والتأريخ نتاجاً يتماشى مع تخصصها في علوم البترول. وكنتَ تشاهدها في المؤتمرات النفطية تُتابع المحاضرات والحوارات وكأنها مندوبة وكالة أنباء، وليس صاحبة «القصر الأبيض». كان يفترض أن أذهب إلى «القصر الأبيض» برفقة نجلها، الوزير محمد العبد الله. لكن مواعيده قضت أن ألتقيه معها في المنزل بينما أرسلت إلي سيارتها تقلني. جلست إلى جانب السائق، فطالعتني على لائحة الراديو آخر اختيار: الموسيقى الكلاسيكية للبولوني فريدريك شوبان. وسألت السائق، هل هذا ما كانت تسمعه الدكتورة اليوم، فقال ببساطة الهنود، هذا ما تستمع إليه الشيخة كل يوم.
في هذا القصر القديم الذي تحولت أشجاره إلى غابة مع السنين، أتعلَّم في كل زيارة درساً في التواضع. ودرساً في التجدد. ودرساً في حفظ الأوطان. قال ملك عربي مرة وهو يستعرض أعمال سعاد الصباح وكتاباتها: سيدة بألف رجل. أما التواضع فأتعلمه من مبارك وعبد الله، اللذين مذ كانا صغاراً، يخاطبان ضيوف عبد الله وسعاد المبارك الصباح، بكنية «عمّي».
سيدة بألف رجل، وعشرة مبدعين. ولا تعرف بأي ميزة تخاطبها، فتواضعها يخفي كل تميُّز. وحجابها يُظهر أكثر فأكثر ذلك التعدد الفكري والثقافي والشغف الوطني. ولم يغير شيء من شغفها القومي. لا الانتكاسات ولا الخيبات ولا شطط أصحاب القضايا المقدسة. بالنسبة إليها القضية لا تخطئ وإن أخطأ حراسها.
أمضت سعاد الصباح العامين الماضيين إلى جانب سرير شقيقها الذي أمضَّها مرضه، ثم هدّها غيابه. وكانت تجد تعزيتها في المزيد من أوراق التاريخ الكويتي، خصوصاً المجهول منه. ولا تزال تمطر في الكويت. خضرة وخيراً ونقاشاً واستجوابات برلمانية، مع ارتفاع في نسبة المطر وانخفاض في حدة الاستجواب.