فاروق يوسف يكتب :

شاهدة لقبر الوطن

في العقود الأخيرة تعرض مفهوم الوطن في العالم العربي لانهيارات كثيرة. كان أهمها هروب الملايين إلى بلدان اللجوء في مختلف أنحاء العالم وكان أخطرها انضمام ملايين إلى حشود المرتزقة الموالين لعقائد، لا تؤمن بفكرة الوطن، كما هي عليه في القاموس السياسي.

الطرفان تخطيا الحاجة إلى وطن مؤكد، لكن بطريقتين مختلفتين.

الطرف الأول نام على وسادة لا يزال ريشها يحلق في سماء الوطن الأم الذي صار جزءا من ماض حلمي ربما لن يُستعاد إلا عن طرق الأغاني.

اما الطرف الثاني فإنه حول الوطن الأم إلى جحيم في انتظار أن تنبعث جنة وطن افتراضي هو عبارة عن مزيج من الوعود غير المؤكدة التي انتجها الانغلاق على الماضي الذي صنعه الأسلاف الصالحون.

وما بين الطرفين هناك وطن ضائع، لا يمكن التحقق من استمراره حيا، ذلك لأن كل مقومات وجوده كانت قد تعرضت للتشويه، تقبيحا وتجميلا وصارت الفجوة تتسع بين حقيقته وواقعه.

ذلك لا ينفي أن هناك مَن لا يزال على قيد المواطنة مضطرا. ولكن أية مواطنة تلك التي صارت أشبه بمحطة مؤقتة يحلم الكثيرون بمغادرتها في أقرب فرصة تتاح لهم من غير أن يشعروا بالندم.

المواطن العربي في معظم حالاته الآن هو لاجئ مؤجل أو إرهابي نائم.

ترى أين يكمن الخلل؟      

أعتقد أن المجتمعات العربية لم تكن قادرة على الدفاع عن مكتسباتها التي تحققت في العصر الحديث، بضمنها "مفهوم الوطن" لأنها لم تكن تملك العدة والوقت اللازمين للقيام بذلك.

من جهة العدة فإن تلك المجتمعات لم تشهد عمليات تنمية مدينية شاملة وعميقة، بما يؤهلها لمغادرة مواقع نشأتها وثقافتها بل ووجودها الموزع بين البداوة والريفية. ولذلك ظلت في الجزء الأكبر منها مجتمعات ريفية أو بدوية تقيم في مدن، لم تقو على استيعاب القيم الثقافية الحديثة.

ولهذا لم تصمد المدن في مواجهة "الغزاة الأبرياء" القادمين بالفطرة من البوادي والأرياف وكان حلمهم أن يكونوا أبناء مدينة غير أن المدينة لم تقم بصهرهم ذلك لأنها لم تكن تملك الوقت بسبب ما شهدته حياتها السياسية من انقلابات انتهت بها إلى أن تتحول إلى مختبر لتجارب العسكر من جهة ومن جهة أخرى الأحزاب الشمولية التي فرضت نوعا من العسكرة من خلال ميليشياتها الجانبية.

لقد سُرق مفهوم الوطن بمعناه الحديث في وقت مبكر من نشأته.

لم يسطُ العسكر والأحزاب الشمولية على السلطة وحدها بل سطيا على الوطن حين جرداه من إمكانية أن يكون وطنا للجميع بغض النظر عن عقائدهم وطباعهم وافكارهم وسبل العيش التي يتبعونها.

كان الإنسان في معظم أجزاء العالم العربي يحتكم في مواطنته إلى رضا السلطة عنه. ولهذا تحولت تلك المواطنة إلى عبء ثقيل من أجل أن لا أقول لعنة. على سبيل المثال فالعراقي الجيد هو البعثي المطيع حسب لغة حزب البعث واللبناني الجيد هو الشهيد حسب قاموس حزب الله وما علينا هنا سوى أن نتذكر تنويعات المواطنة التي اخترعها معمر القذافي وجعفر النميري وحافظ الأسد وياسر عرفات وأنور السادات.

في حقيقة الأمر فإن الإنسان العربي كان قد أذل عن طريق مواطنته التي بدت كما لو أنها هبة، عليه أن يدفع ثمنها.

اكتفى الكثيرون بالهرب عن طريق اللجوء الصامت غير أن هناك من رغب في الانتقام عن طريق الخيانة، وهو ما يفسر إقبال شباب بذريعة التدين على الانخراط في صفوف الجماعات المسلحة التي نظمتها قوى الإسلام السياسي وفي مقدمتها جماعة الاخوان المسلمين وحزب الله اللبناني لتكون بمثابة شاهدة لقبر للوطن.