كرم نعمة يكتب:
الفصل بين الأجيال
أخضعت نفسي إلى اختبار الفصل بين الأجيال من دون أن أدري! عندما وقعت في يدي طبعة نادرة من كتاب عالم الاجتماع العراقي علي الوردي “وعاظ السلاطين”، كان مغريا أن أعيد قراءة الكتاب بإعادة طريقة تفكيري بالإبهار المبكر بكل ما كنا نقرأه، فقد قرأت الكتاب للمرة الأولى قبل أن أدخل سنتي الجامعية الأولى، كان مثيرا ومعبرا بامتياز عن توق فكري كنا نودّ الوصول إليه، هكذا دافعت قبل أكثر من ثلاثين عاما عن “تحفة اجتماعية” يشعر بالفخر شاب مثلي قد قرأها آنذاك.
اصطحبت الكتاب بأوراقه الصفراء وطباعته البدائية إلى أقرب مقهى جوار منزلي في عطلة نهاية الأسبوع، حالفا أن أتمّ قراءته، كان يكفيني قدحان من القهوة عبر ثماني ساعات قراءة متواصلة، ويا للخيبة، كيف كان لي أن انبهر بكلام عاديّ يمكن أن يقوله أيّ رجل يدّعي الحكمة وهو يتحدث في المجالس العشائرية! الأفكار التي ابتكرها الوردي في هذا الكتاب قد تكون مناسبة لزمن كتابته في خمسينات القرن الماضي، لكنها بالتأكيد لا أهمية لها اليوم إلا إذا كانت تمثل استعراضا لطريقة التفكير والحلول المقترحة لمجتمع اعتبر آنذاك أن الحديد صار يتكلم عندما استمع الناس للمرة الأولى لجهاز الراديو.
كانت إعادة قراءة الكتاب تجربة مثيرة في الصدام بين الأجيال وأنا أنظر إلى جيل علي الوردي، ربما يكون هذا الصدام في المجتمعات الغربية وفق سايمون كوبر الكاتب في صحيفة فايننشيال تايمز البريطانية، أكثر حدّة من الانقسامات الاقتصادية والعرقية التي يتداخل معها. لكنه أيضا بالنسبة لنا في المجتمعات العربية صراع جديّ يحرضنا على إعادة التفكير بأوضاعنا، فإذا كنا سنعيش مئة عام، فلا يمكننا التوقف عن التعلم عند عمر 22 عاما.
هكذا يصف مارك فريدمان، مؤلف كتاب “كيف تعيش إلى الأبد”، النزاع بين الأجيال بأنه “جرح عميق ألحقناه بأنفسنا” ولكي ننهي هذا النزاع، نحتاج إلى إنهاء الفصل بين الأجيال التي اختلطت في معظم حقب التاريخ أكثر من الآن بكثير.
لو بقي علي الوردي حيا اليوم، لكانت أفكاره قد عوملت بازدراء من قبل أفكار عالم الاجتماع المعاصر يوفال نوح هراري، فالوردي المصاب بخيبة دائمة من حال المجتمع لن يبدي استعدادا لقراءة عالم اجتماع يرى في حياتنا أشبة بعرض عرائس عاطفي وهو يقدم 21 درسا للقرن الحادي والعشرين.
مشكلة المجتمع بالنسبة للوردي كانت عادات لا أهمية لها اليوم، بينما إحساس هراري، بأننا نعيش في أفضل عصور البشرية يتأتى من تناقضات تثير التهكم، فالإنسان صار يموت بسبب التناول المفرط للطعام، وليس من الجوع، وصارت حياة البشر تنتهي بسبب الشيخوخة وليس من الأوبئة القاتلة.
هكذا تبدو لي فكرة إلغاء الفصل بين الأجيال تجربة في غاية الصعوبة. ولا عجب، أن الأجيال المنفصلة لديها رؤى منفصلة للعالم. واليوم مازال ثمة من يفكر بطريقة علي الوردي، لكننا مطالبين بالاستماع إليه باحترام كبير.