سمير عطا الله يكتب :

ينضم إلى سربه

ترددت لعدة أيام في الكتابة عن غياب إبراهيم سعدة خوفاً من عائقين: الأول أن يعترض الزملاء في مصر، لأن الرجل النبيل كان شخصية مصرية جداً وليست له شهرة أقرانه في العالم العربي. والثاني أن أحدِث قراء الجريدة في البلدان العربية عن رجل لم يظهر في دنياهم كثيراً.

لكن المقالات التي كتبت عن إبراهيم سعدة، ولا تزال، أشعرتني بالخجل. لقد فقدت صحافة مصر في السنوات الأخيرة الكثيرين من وجوهها المتألقة والمعروفة خارج المحروسة: علي ومصطفى أمين، وأنيس منصور، ومحمد حسنين هيكل، وإبراهيم نافع، وفتحي غانم، وأحمد بهاء الدين، وغيرهم. وجميع هؤلاء كانوا كتّاباً وإداريين ممتازين أيضاً. وهكذا كان إبراهيم سعدة. لكنه تميّز عن جميع أهل الصحافة في كل مكان أنه كان بلا خصوم. أدار أكبر الدور وكتب كل يوم وانخرط في العمل السياسي على جميع المستويات، واستطاع بتلك الشخصية العذبة والطيبة، أن يبقى بلا خصوم.

شجاعته الكبرى كانت في الاعتذار، أو في التواضع للتقرب من الناس. لم يكن ينتظر مناسبة ليتعرف إليك، بل كان يتقدم من الناس مثل طفل معجب بأبطاله «يمكن حضرتك ما تقابلناش قبل كده». والتعابير الشائعة، أو الواجبة، هي التي تصنع من كل مصري «جنتلمان»، آسراً ومتوفقاً في لغة المخاطبة. لكن إذ كان يفيض عليها أيضاً من صدقه وأدبه، كان فريداً حتى بين المصريين.
يكتب الزميل سليمان جودة أن «أخبار اليوم» انتقدته في الطبعة الأولى ذات يوم، فاتصل به رئيس تحريرها ومجلس إدارتها يعتذر، ويبلغه أن الإساءة لن تظهر في الطبعة الثانية. ولم يكتف إبراهيم سعدة بالاعتذار الشفهي، بل أرسل إلى سليمان جودة في اليوم التالي نسختين من «أخبار اليوم»، الطبعة الأولى والطبعة الثانية.

تلك الدماثة الرائعة، كأنما يتلقنها الصحافيون الكبار في مصر بالرضاعة. ولذا تبدو الوضاعات فيها مثل قمامة على مدخل حديقة. وهي التي يسميها المصريون «جنينة» تطريباً. أي تصغير الجنة. وفي هذه الجنينة لا تزال تظهر أقلام خصبة كثيرة. ولا يزال هناك أساتذة كثيرون يحمون صحافة مصر من السقوط بعد عراقة لا مثيل لها. ها هي «الأهرام» تحتفل بمرور 143 عاماً على صدورها المستمر. جنينة هائلة من الأسماء والعظماء مرت بها. من أنطون (باشا) الجميل إلى يوليو حسنين هيكل. في الملكية وفي الجمهورية. كانت لسان حال مصر وصورتها وأمانة الاسم الذي تحمله.