كرم نعمة يكتب:
رحلت مائدة، فمن يوقف الحنين
لا يمكن استذكار مائدة نزهت التي رحلت عن عالمنا قبل أيام، من دون العودة إلى زوجها الموسيقار الراحل وديع خوندة. الاثنان اكتفيا بالاعتداد بالنفس في نهاية حياتهما وفضلا الصمت بطريقة تشبه التصوف، وكأن قدر الفنان المخلص أن ينتهي عند المناجاة مكتفيا بالأمل وتاركا خزانة الماضي مقفلة بجرس الحنين.
رحيل الفنانة مائدة لا يختلف عن رحيل زوجها وديع، فكلامها فضلا الصمت بوصفه لغة الحكمة، بعدما أرّخا معا لتاريخ من الفرح والعشق والوله.
لا أَخلصَ من وديع خوندة على الذائقة السمعية في تاريخ الموسيقى العراقية، فعندما كان رئيسا للجنة فحص الأصوات في الإذاعة العراقية، كان يعد الصوت الرديء تعدّيا على الذائقة الجماعية، فمرة طلب من أحد المتقدمين ألا يغامر بالغناء لأن صوته لا يصلح، وعندما يغني يرتكب جرما يحاسب عليه القانون.
هكذا كان وديع موسيقارا وهو يهندس الألحان بتعبيرية باهرة لأصوات ناظم الغزالي وصباح ووديع الصافي ونجاح سلام ونرجس شوقي، وعندما تزوج مائدة نزهت كان أكثر من زوج في علاقته بها فقد أكتشف مكامن الإبداع في صوتها بألحان لا يمكن أن تنسى، عودوا إلى أغنية “الفستان الأحمر” لمعرفة دلالة الإبهار في الغناء العراقي.
لم يحل زواج وديع من مائدة دون الاقتصار على ألحانه، فقد كان صوتها حقلا فنيا للتجارب التعبيرية التي شكلت قلادة الغناء العراقي فغنت من ألحان ناظم نعيم وعباس جميل وياسين الراوي وكوكب حمزة وطالب القره غولي، بل إن رائعة “سألت عنك” التي كتبها عبدالكريم مكي ولحنها الموسيقار فاروق هلال تكاد تكون درسا باهرا في معنى الغناء. يكفي أن تكون مائدة نزهت أول من أدّت المقام العراقي الذي كان مقتصرا على أصوات الرجال.
اعتزلت مائدة نزهت في ثمانينات القرن الماضي بعد أن أحبها العراقيون والعرب كصوت مدني يرتقي بأغنية البيئات، في وقت كان يسيطر الغناء الريفي على الأصوات النسائية العراقية، كانت تحلم أن ينساها الناس! وكيف لهم ذلك؟ وهي التي أرّخت لأحلامهم وأوجاعهم ومسراتهم وعشقهم ووطنيتهم، من يعد إلى أنشودة “حاصودة” التي كتبها الشاعر الراحل ذياب كزار “أبوسرحان” ولحنها كوكب حمزة وأدتها مع الفنان فاضل عواد، يكتشف الدفق الوطني في صوت مائدة نزهت. فيما بهرت الأسماع في لحن عميد الغناء العراقي عباس جميل لأنشودة “ديرة هلي” التي كانت درسا وطنيا لا يمكن أن يغادر الأسماع مهما حاول البعض حصرها في دلالة قاصرة ومريضة.
طلبت مائدة بعد اعتزالها من رئيس الدولة آنذاك أن يساعدها على أن ينساها الناس، ويأمر بوقف بث أغانيها في التلفزيون العراقي، كان طلبا موجعا فمائدة التي قدمت أروع الأغاني الوطنية لا يمكن أن يتم مسحها بقرار سياسي، لكنها أيضا فنانة تستحق الاستجابة إليها، فنزل الرئيس عند رغبتها في إيقاف عرض أغانيها على الشاشة، لكن حنين العراقيين أكبر من أن يتحمل إيقاف بث أغانيها في الإذاعة، وهكذا بقي صوت مائدة نزهت إذاعيا منذ اعتزالها.
من يستمع اليوم إلى أغنية "محتارين" التي كتبها داود الغنام ولحنها ناظم نعيم، يجزم بأن الحنين لن يتراجع إلى زمن الكمانات الساحرة، زمن مائدة نزهت.