سمير عطا الله يكتب:

مئوية سولجنتسين في منفاه الروسي

في مئوية ألكسندر سولجنتسين هذا الشهر، صدرت في أميركا وأوروبا، وربما في روسيا أيضاً، عشرات المؤلفات التي يروي كل منها فصلاً من حياة الرجل الذي ارتبط اسمه بهزيمة الاشتراكية والاتحاد السوفياتي. ولد سولجنتسين في بلدة تدعى «المياه الحارقة» فيما كانت روسيا غارقة في الحرب الأهلية ضد البلاشفة. وسوف يمضي عمره الذي امتد إلى التسعين، في مقاتلة «ما فعلت الشيوعية تجاه الأم روسيا». لكنه عندما جاء إلى الغرب يبحث عن منفى، وجد نفسه يحارب الليبرالية، والانقسام النفسي، والماديات، وحضارة التلفزيون السريعة، والغرق في الإباحيات والابتعاد عن القيم. وفوق ذلك كله، كان يشعر طوال عشرين عاماً أمضاها في المنفى، بحنين هائل إلى روسيا.
لدى وصوله إلى أميركا، قام بجولة في جميع الولايات بحثاً عن مكان شبيه بالوطن الأم. لكن الغابات هنا حديثة، وليست بكثافة الغابات هناك. والبوادي ليست في جمال البوادي في أوكرانيا. حتى أنه فكر بالسكن في ولاية آلاسكا، التي كانت روسية ذات يوم. لكنه عثر أخيراً على منزل ناءٍ في ولاية فيرمونت الخضراء، حيث أمضى 18 عاماً مع عائلته في روتين لا يتغير: يمارس السباحة، ويقطع الأخشاب، وينظف الأعشاب. ومثل أسلافه من جبابرة الرواية الروسية، كانت زوجته تقوم بدور السكرتيرة، ومديرة الأعمال، والمشرفة على الاتصال بالعالم الخارجي. لكنها في هذا المجال لم تبلغ الشهرة الدراماتيكية التي بلغتها زوجتا تولستوي ودوستويفسكي.
عندما سمح له بالخروج من الاتحاد السوفياتي، كان قد أصبح أحد أشهر كتّاب العالم، خصوصاً منذ فوزه بنوبل الآداب 1970. ومع حلول 1976 كان مبيع مؤلفاته قد زاد على 30 مليون نسخة حول العالم. لذلك، لم تكن لديه مشكلة مادية وهو يبحث عن موطن جديد في المنفى الجديد. وقد أحب في البداية فرنسا أكثر من أي مكان آخر، لكنه سرعان ما اكتشف أن جهل اللغة الفرنسية جدار صعب الاختراق، وقد أحب فرنسا لأسباب أخرى أيضاً، منها اهتمام الفرنسيين الشديد بآدابه، وحرصهم على صدور مؤلفاته في مواعيد دقيقة. وكان يمكن أن يبني لنفسه بيتاً وبرجاً قرب إحدى الغابات كما فعل في فيرمونت، لكن الهرب من الناس وطالبي المقابلات سوف يكون صعباً. فالرجل الذي لا يبتسم خوف إضاعة الوقت، يرفض أن يدخل عالمه أحد.
كل صباح يدخل إلى مكتبه الفسيح في أعلى البرج لينصرف إلى كتابة تلك الملاحم النثرية التي لم يبلغ حجمها أحد. وضع آلاف الصفحات وهو واقف لا يستطيع الجلوس بسبب معاناته من ألم «العرق الأنسر». وهذه حالة شاركه فيها الأميركي فيليب روث.
الرجل الذي طرده السوفيات، أصبح أدبه اليوم مدرجاً في مناهج الدراسة الروسية. ليس بالخيار، بل بالفرض. غاب سولجنتسين قبل عشرة أعوام وهو لا يزال يخوض مثل دون كيشوت معاركه ضد طواحين الهواء في كل اتجاه.