كرم نعمة يكتب:
أب الإنترنت لم يكن محقا تماما
تستعين الأفكار الصحافية بالتاريخ بوصفه ملهما عند الحديث عن تجزئة الإنترنت إلى ممالك، وكأن ما يحدث للشبكة اليوم أشبه بما حدث “للممالك الأربع” اليونانية والرومانية واليهودية والبروتستانتية.
قد لا تكون المقارنات مع حالة الإنترنت المعاصرة واضحة على الفور، لكن دراسة أكاديمية حديثة توصلت إلى أن شبكة الإنترنت قد تمت تجزئتها بالفعل إلى أربع ممالك وقد تقترب في حد ذاتها من خاتمة دراماتيكية. فهناك اليوم الإنترنت الليبرالية، وإنترنت البرجوازية، وإنترنت المنع ثم الإنترنت التجارية. وطالبت الدراسة بالاهتمام بالشبكة نفسها أكثر من الأنظمة والبروتوكولات والمعايير التي تشكل الويب، مشددة على الوعد الأصلي لهذه التكنولوجيا الرائعة كان بألا تقع ضحية للأولويات الجيوسياسية المتضاربة.
لقد وضع المصممون الأوائل انفتاح الإنترنت نصب أعينهم وهم يبشرون بالتجربة الحية التي تعيشها البشرية اليوم، أو بتعبير الشاعر جون بيري بارلو، عندما وصف الفضاء الإلكتروني بأنه “عالم في كل مكان وفي أي مكان” لم تنطبق عليه مفاهيم الملكية والهوية.
مع أن الملايين من المستخدمين ينشدون الإنترنت المفتوح، لكن أخطاره سرعان ما أصبحت تقوض سلطة الحكومات وتتلاعب بالديمقراطية، حتى وصل بالاتحاد الأوروبي الذي طالما ركز عبر تاريخه على الحرية كمعادل للكرامة الفردية، أن يفرض لوائح وقوانين صارمة وصفها الناقدون بـ”الإنترنت البرجوازي”. دعك من الاستبدادية التكنولوجية في تعامل روسيا والصين مع حقوق الأشخاص في إنترنت المنع.
إذا كان هدف الإنترنت المفتوح الجمهور بغض النظر عن أين يكون، فإن الإنترنت التي تروج لها كبرى الشركات الأميركية أصبحت كجزر مسورة لا يمكن الوصول إليها بالإمكانيات المتاحة لعامة الناس.
هناك عمل سياسي ودولي لتعطيل التوازن الذي اقترحه المؤسسون الأوائل للإنترنت، ووضع ضوابط صارمة للوصول إلى الإنترنت كما يحدث في المناطق الريفية والفقيرة في دول العالم المختلفة. هكذا تصبح استبدادية الإنترنت إذا سادت مأساة العالم وفق تعبير صحيفة فايننشيال تايمز البريطانية، من دون أن تتغاضى عن العيوب الظاهرة جراء ازدهار الإنترنت المفتوح، وتطالب بمعالجتها ولكن ليس على حساب قتل المبادئ الأصلية التي تم بناء الشبكة عليها.
إن الارتباطات الجغرافية محيرة لمن يرون في الإنترنت وسيلة بلا حدود تجعل المسافات والأماكن بلا أهمية، غير أن تلك الحيرة تتلاشى عندما ندرك أنه برغم ظهور مفاهيم العولمة وتلاشي المسافات، فإن الحدود القومية تعكس اختلافات حقيقية ومهمة بين الناس في الأماكن المختلفة، لهذه الأسباب بدا أن الإنترنت حطمت الانسجام التاريخي بين السلوك الفردي والسلطة الحكومية.
يلخص جاك غولدسميث وتيم وو مؤلفا كتاب “من يحكم الإنترنت؟ أوهام عالم بلا حدود”، ذلك في القبضة الأميركية على الإنترنت المجسدة أولا باستحواذها على “إيكان” المؤسسة المتخصصة بالأسماء والأرقام المُشرفة على توزيع أسماء النطاق على الإنترنت التي تتخذ من ولاية كاليفورنيا مقرا لها منذ العام 1998، وتتبع لوزارة التجارة الأميركية.
ففي خضم محنة ياهو مع فرنسا كتب بول كروجمان عمودا في صحيفة نيويورك تايمز عن موضوع تهديد الإنترنت، لحقوق الملكية الفكرية وقوانين الضرائب التقليدية، حيث قال محذرا “إن تقنية الإنترنت تزيل الحدود وتقوض السلطة الحكومية، هناك شيء خطير ومقلق يحدث، ولم أسمع أي أفكار جيدة حول ما نفعله في هذا الشأن”.
وفي أواخر تسعينات القرن الماضي كان هناك اتفاق عام يجمع على أن تحدي الإنترنت للسلطات الحكومية سيقلل من أهمية الدولة القومية. يقول نيكولاس نيغروبونتي المؤسس المشارك ومدير مختبر الوسائط المتعددة بمعهد ماساتشوسيتس للتقنية “لا تتعلق المسألة بعدم أهمية القوانين، بل بعدم أهمية الدولة القومية” وخلص إلى نتيجة مفادها أنه “لا يمكن التحكم بالإنترنت”.
يمنحنا مؤلفا كتاب “من يحكم الإنترنت” قصة تكاد تكون مثالية عن فكرة الحدود في الفضاء الإلكتروني، فقد كان سيريل لينويل هوري رائدا في رسم الحدود على الإنترنت، عندما تبنى ذلك المجال القائل إن الإنترنت قادرة على محو الحدود، وتحدث هوري عن وادي السليكون في الولايات المتحدة بلكنة فرنسية مصطبغة بجذوره التونسية، إذ هاجر والداه اليهوديان إلى فرنسا.
نشأ هوري وترعرع في فرنسا، ودرس في معهد العلوم التطبيقية الرفيع في تولوز، وهو إحدى المؤسسات التعليمية التي يطلق عليها اسم (المؤسسات الكبرى) في فرنسا، ويقدم للمجتمع الفرنسي صفوة الطلبة في مجالات السياسة والفكر وإدارة الاعمال. وبعد أربعة أعوام من تخرجه، هجر هوري مجتمع الصفوة الفرنسي إلى نيويورك، وقرر العمل في مجال الكمبيوتر، وساهم في كتابة الشفرة التي مكنت المتعاملين في السوق من تحريك المليارات من الدولارات حول العالم يوميا، فإذا كان ما أنتجته الحضارة الوطنية الفرنسية قد وجد طريقه إلى وادي السليكون في مانهاتن، فمن الواضح أن الحدود الوطنية آخذة في الانهيار.
بيد أنه كان مقدرا لهوري أن يعزز من تأثير الحدود الجغرافية لا تدميرها، ففي رحلة إلى باريس في أغسطس عام 1999 اكتشف شيئا لم يقلب مستقبله المهني رأسا على عقب فقط، بل أحدث تحولا في الفكرة التقليدية بشأن الإنترنت والمكان، ففي أحد الأيام، كان هوري جالسا في منزل والديه يتفقد بريده الإلكتروني من جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص به قبل النوم، ورأى بوابة إلكترونية اعتاد تصفحها وهو في نيويورك، وعلى جانب الصفحة الرئيسية للبوابة إعلان عن خدمة توصيل الزهور للمنازل من متجر أميركي، وعلى الإعلان رقم هاتف يبدأ (1-800) وهذه الخدمة سارية فقط في الولايات المتحدة.
وفي تلك اللحظة أدرك هوري أن منطق الإنترنت لم يكن يهدف مباشرة إلى القضاء على الحدود، فقد اكتشف أنه على العكس من ذلك، إذ أن خدمة توصيل زهور عبر الحدود أمر غير منطقي، وأدرك أيضا أن الناس يدفعون مقابل شراء برامج تحاكي الحدود وتخلقها على الإنترنت، حتى يتسنى لتجار الزهور والآلاف غيرهم من أصحاب الشركات على الإنترنت معرفة أماكن تواجد عملائهم، وقد رأى أن برنامجا يحول دون أن يرى من هم خارج أميركا الإعلانات الموجهة للأميركيين، وبالمثل الإعلانات الموجهة للفرنسيين والألمان، سيدر أرباحا ضخمة. وتلك التقنية عينها هي التي ستسمح للمواقع الترفيهية بتوجيه محتواها بحسب مواقع جمهورها، وكل ما سيتطلبه الأمر برنامج لتحديد المواقع الحقيقية لمتصفحي الإنترنت، وأسس هوري شركة أسماها “إينفوسبليت” وخصص نشاطها لهذا الأمر.
واليوم عندما نستعيد جملة أب الإنترنت فينت سيرف “إن الإنترنت صممت دون أي اعتبار للحدود الجغرافية بين الدول، والحركة الفعلية على الشبكة غير مقيدة على الإطلاق بالجغرافيا” نكتشف أنه لم يكن محقا تماما.