علي الصراف يكتب:

الديمقراطية كإسلام سياسي آخر

ما من كلمة حققت انتصارا ساحقا في الأدب السياسي العربي مثل الديمقراطية، حتى أصبحت “معبود” المثقفين الأول. وهي الأمل المرتجى والإله الذي نصلي له كل يوم. وهي الحل لكل المشكلات. ومثلما يرفع الإسلاميون شعار “الإسلام هو الحل” (هكذا خبط لزق) فهناك من يرفع شعار “الديمقراطية هي الحل” (خبط لزق أيضا) ليس على سبيل المناكفة وإنما على سبيل الإيمان المطلق بأن “الديمقراطية” هي الحل فعلا. ولكن ما هي الديمقراطية، لكي تُفرض علينا وكأنها دين يتعين أن نقدسه؟

ضع هذا المفهوم في نطاق التدقيق والمساءلة وسوف تكتشف كم أن تصوراتنا عنه تميل إلى التجريد والإطلاق والتسطيح. إنها “حكم الشعب” أولا. ولكن هل حقا؟ يمكنك أن تدقق في كل التجارب الديمقراطية الغربية، حديثها وقديمها، وسوف تكتشف الخدعة.

إنها حكم مراكز النفوذ، والقادرين على شراء أصوات الشعب بالأكاذيب والتعهدات غير القابلة للتحقيق. كما أنها حكم الحزب الذي يكسب أصواتا، ليس لمعجزة فيه، بل لأن الحزب الآخر لم يحقق برنامجه، أو لأن الملل أصاب الناخبين منه، أو لأن مياه الحياة سارت في اتجاه آخر فأغرقت البلاد بأزمة من الأزمات الدورية للرأسمالية.

لا شيء في هذا كله ينطوي على أي اعتبار لمفهوم “حكم الشعب”. إنها حكم النخبة التي تزعم أنها تمثل الشعب. وذلك على النحو نفسه الذي يزعمه “الإسلاميون” بالقول إنهم يمثلون الله، وإنهم حصلوا منه على ترخيص ليكونوا أولى من غيرهم بـ“حكم الله”.

الديمقراطية، من الأساس، نظام فاسد. وهي لا تبني إلا مؤسسات فساد وعلاقات فساد ومصالح فساد، ليس على المستوى المحلي فحسب، بل وعلى المستوى العالمي أيضا. إنها مجرد غطاء لدائرة المصالح التجارية أو الإستراتيجية أو الاستعمارية. كما أنها غطاء لكل آليات الاستعلاء العنصري وتفوق العرق الأبيض أو تفوق “الثقافة الغربية”. ويحسن الاعتراف بأننا نصلي لهذا الرب، امتثالا لهذا التفوق، وقبولا بكل معاييره وأخلاقياته وتصوراته. إنه انتصار لثقافة الجشع الاقتصادي والنزعة الاستعمارية، كما لثقافة النفاق التي تشكل ثلاثة أرباع الثقافة السياسية الغربية.

لماذا نريد الديمقراطية؟ لأننا لم نعرف كيف ننحت صنما آخر لكي نعبده ونقدم له الأضاحي. ثقافتنا عجزت، إلا عن استجلاب المفاهيم من الغرب (المتقدم)، وعجزت عن نقدها والنظر إلى واقعها. كما عجزت عن النظر إلى ما تتطلبه من أسس.

ولئن كان من الشائع أن يقترن النظر إلى “تقدم” الغرب بـ”ديمقراطيته”، فالحقيقة هي أن هذا الاعتقاد شديد السطحية إلى درجة تدفع المرء إلى أن ينتف شعر رأسه من فرط الذهول. لأن الأمر جاء بالمقلوب تماما.

تقدم الغرب لا علاقة له بالديمقراطية. في الواقع فإن “التقدم” هو الذي اشترى الديمقراطية وأفسدها وحولها إلى دمية تلعب بها المصالح الاحتكارية كما تشاء. بل إنه هو الذي حوّل شعوبا بأسرها إلى مطايا حقيقية أو إلى قرود، على وجه أدق، تميل إلى مَنْ يُطعمها موزا (من دماء شعوب أخرى).

تقدم الغرب ليس سوى تقدم صناعي. هذا هو أساسه. إنه تقدم البورجوازيات التي نجحت في تحويل دولها إلى قوى استعمارية وشعوبها إلى قرود. لقد مضى التشويه في اتجاهين. الأول تقديم صورة مختلفة عن الواقع لأسس التقدم وطبيعته الرأسمالية. والثاني بتركيب قناع ديمقراطي عليه.

الكثير من مثقفينا يلبسون هذا القناع وهم مقتنعون بأنه وجههم. وأن الناس كلها يجب أن ترتديه. وقد نجحوا في ذلك أيما نجاح. حتى تحول الزيف إلى علاقات عامة. وتحولت الديمقراطية إلى حجة نحتج بها على كل شيء ونحيل كل أزماتنا إلى افتقادها.

الديمقراطية عندنا شيء يشبه تماما الشعر الحديث. ليس لأنها تحولت إلى نشيد وطني، وليس لأنها ترانيم غير مفهومة المقاصد، بل لأنها من دون بنية تحتية. قل لي ما هي البنية التحتية للحداثة الشعرية في مجتمعات يغلب عليها الفقر والأمية، وسأقول لك ما هي البنية التحتية للديمقراطية. ولسوف تكتشف حجم الزيف في هذه وتلك.لم تنتصر الديمقراطية في التداول العام إلا لأننا مُستعمَرون ثقافيا كما كنا مُستعمَرين بالجيوش. وإلا لأننا آثرنا قبول التشويه على أنه حقيقة.

لقد ذهب بنا الميل إلى الحلول السهلة. مع سوء فهمها أيضا. ودارت بنا الأيام كامل دورتها من العبث، فلم نجد للديمقراطية سبيلا. وكلما حاولنا، ولو بإنتاج دستور يقول للرئيس، يا أخي لا تحكم أكثر من دورتين، أوجدنا مليون ذريعة لكي ننقلب عليه (على الدستور طبعا). وبقينا في الوقت نفسه نرنو إلى الغرب الذي، يا محلاه، يطبق كل قيم “الديمقراطية”. هل هذه هي الحقيقة فعلا؟

أولا، لا توجد ديمقراطية بالمعنى المثالي الذي يقدمه المثقفون للناس. هذه كذبة كبيرة. التصور المثالي نفسه خطير جدا. لأنه يقدم دواء يزعم أنه شاف لكل العلل، بينما علتنا تحتاج إلى دواء آخر.

وثانيا لا توجد ديمقراطية في الغرب نفسه. وتعجز الكثير من “الديمقراطيات” الغربية حتى عن إقناع الناس بالذهاب إلى التصويت أصلا. ولولا بعض أعمال الإثارة المسرحية التي يشكل الإعلام بطلها الأكبر، لتراجعت نسب التصويت إلى حدود تجيز الشك بطبيعة النظام نفسه.

وثالثا الديمقراطية أداة لنظام قائم على مقومات اقتصادية وأسس اجتماعية وفكرية أخرى وسياقات تاريخية مختلفة. وما لم تكن قادرا على استنساخ تلك الأسس فإن كل ما تعمله هو أن تضع الأداة بيد غير اليد. وهذا ما يحصل حيث تحولت مزاعم الديمقراطية إلى واحدة من أكبر عمليات الخداع في العديد من البلدان العربية التي زعمتها.

لن آخذك إلى برلمان “النظام الديمقراطي” في العراق، لمجرد أنه فضيحة. لن استسهل الأمثلة. ولكن ما رأيك ببرلمان الماغنا كارتا؟ إنه أحط وأنذل برلمان عرفه التاريخ. صحيح أن الكثير من حجاج الثقافة الغربية يحجون إليه ويدورون حول أركانه ويلتقطون لأنفسهم صورا أمام جدرانه، إلا أنه برلمان كل الغزوات والحروب الاستعمارية التي قامت بها بريطانيا لما لا يقل عن ثلاثة قرون. وتوجد من حوله تماثيل لقادة عسكريين وسياسيين يجري تمجيدهم، بينما هم مجرمون يستحقون المحاكمة على أعمال القتل الجماعي التي ارتكبوها في أركان الأرض الأربعة. إنه برلمان “وعد بلفور” (ليس حبا باليهود، بل كرها لهم ولنا معا). وهو برلمان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. وبرلمان دعم نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، فضلا عن حصار العراق وغزوه، والحقائق التاريخية الأخرى أكثر من أن يمكن حصرها. هذا ما أنتجته الديمقراطية في بريطانيا ومثلها فعلت “ديمقراطيات” أخرى. فبأي مثال يمكن لمفاهيم الحجاج الثقافيين العرب أن تمتثل؟ وهل تصلح لتكون نشيدا وطنيا أو قناعا يرتديه الجميع؟

والحال فإن هناك أساسا بنيويا هو الذي يقود الديمقراطية لتكون مجرد خدعة لاستبدال الحقائق ولتقديمها بوجه آخر. وشعوب الغرب راضية بها، من ناحية لأنها تُطعمها موزا، ومن ناحية أخرى لأنها تتطابق مع التصور المتعالي الذي تتصوره عن نفسها. نحن نتخلف ليس لأننا لم نأخذ بالديمقراطية كنموذج للحكم ولكن لأننا حولناها إلى إله نصلي له، فأخذنا الطريق الخطأ بينما كنا بحاجة إلى علاج أقرب إلى أساس العلة.

إنه العدل الذي لو احتل ما تحتله الديمقراطية من لغط، لكنا أقرب إلى استئناف مشروع للتقدم والتحضر. وللعدل في ثقافتنا مكان مكين. إنه أساس الملك. فلما غاب تداعت أركان الملك كما تداعت أركان الحياة وتحولنا إلى مهاجرين ثقافيين ينشدون أغاني ديمقراطية على “مجتمعات” لا تملك بورجوازيات تطعمها موزا ولا ينطبق عليها حتى مفهوم “المجتمع” نفسه. أعطني عدلا، وخذ كل الباقي. كان يفترض بالعدل أن يأتي أولا. فالأمم والحضارات لا تبنى من دونه. أما حاكمنا العزيز، فيمكنه أن يبقى عزيزا ما شاء له الهوى. ولا حاجة إلى دستور نقوم بترقيعه ليأتي على مقاس حذائه كلما كبرت قدماه. أعط الناس عدلا، فقط. واجعله عدلا مشهودا له بينهم بالفعل. وخذ الملك. سيكون ملكا متينا. ولسوف نرضى به ما بقي عدله عدلا.

العدل ليس هو كل الحل. ولكنه أول الحل، وأول الطريق.