علي الصراف يكتب:
اتفاق النفط واستقلال كردستان.. كيف تحوّل الحق المشروع إلى كارثة
قاد زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني طموحات شعبه في العراق بالاستقلال إلى كارثة. ولا يبدو أنه استوعب الدرس.
لقد كان بوسعه أن يعيد بناء العراق؛ أن يؤسس نظاما ديمقراطيا يحترم قيم العدالة والقانون وحقوق الإنسان. أن يحمل الشراكة الوطنية العربية - الكردية في العراق على محمل العدل والمساواة. أن يجعل من مكانته ومكانة الأكراد في برلمان بغداد أداة صارمة ضد الفساد بدلا من أن يكون شريكا فيه. أن يلغي نظام المحاصصة الطائفية، لحساب نظام وطني يحترم الكفاءات. أن يعيد بناء الجيش وقوى الأمن الداخلي على قيم وطنية وحقوقية وأخلاقية راسخة. أن يكون شريكا في بناء عراق قوي، لا في عراق منهار.
ولكنه فعل العكس، ظنا منه أن تخريب العراق وإغراقه بالجريمة والفساد سوف يجعل من كردستان نموذجا مختلفا، فيصبح “الانفصال” حقيقة موضوعية.
لم يلاحظ شيئين على الأقل في هذا المساق. الأول، هو أن الفساد مرض معد. والثاني، هو أن نظام المحاصصة الذي مزق الدولة العراقية، ما كان من شأنه إلا أن يمزق كردستان نفسها.
لم يفهم كيف يكون ذلك. ولا يبدو أنه مستعد لإعادة النظر. ربما لقناعة أرسخ، هي أن الأوان قد فات.
اتفاق النفط الجديد بين بغداد والإقليم كان هو المسمار الأخير في نعش الاستقلال. الطموح تحول إلى كارثة. الحق المشروع والمقدس ضل الطريق بسوء المسالك والخيارات
لم تكن حساباته الانفصالية خاطئة بمعنى الموقف الإقليمي منها فقط. ولكنها كانت خاطئة بمعنى الموقف منها داخل العراق نفسه. ظن أن تحالفه مع عصابات وميليشيات إيران يوفر لمشروعه فرصة أفضل. لم يستطع أن يفهم، في السابق، ولا حتى الآن، كيف يمكن للشعب العراقي نفسه أن يكون هو سند الدفاع الأول لحق كردستان في أن تكون كيانا مستقلا في مواجهة التهديدات التي تشكلها إيران وتركيا لهذا المشروع.
حق الأكراد في إقامة كيان قومي مستقل، مشروع ومقدس. وهناك طريق واحد لتحقيقه. ولكن السيد مسعود اختار الطريق الآخر، الفاسد حصرا، فأفسد على حقوق شعبه.
قد تسأل: كيف يمكن لنظام ديمقراطي يحترم قيم العدالة والقانون وحقوق الإنسان، ويكون “نظاما قويا”، أن يسمح باستقلال جزء من أراضيه؟
الجواب: فقط الأنظمة الديمقراطية والقوية هي التي يمكنها أن تفعل ذلك. لا أنظمة الضعف والفساد والطغيان. لماذا؟ لأن الأولى، هي الوحيدة التي يمكنها أن تحترم إرادة مواطنيها. وقوتها هي السند الوحيد لخيار جذري بهذا الحجم أمام الأطراف الإقليمية التي قد تعارضه. أما أنظمة الفساد والطغيان، فإنها إذ لا تحترم إرادة مواطنيها، وتميل إلى سحقهم، فإنها لن تحترم إرادة مجموعة قومية أخرى. سوف تميل إلى سحقها، وسحق حقوقها المشروعة مثلما تفعل مع مواطنيها أنفسهم.
لقد كانت الديمقراطية هي الأساس الذي وفر السبيل لانقسام تشيكوسلوفاكيا إلى دولتين. ولو أنه كان فيها نظام ميليشيات كالنظام الذي تحالف معه مسعود في بغداد، فإن حربا أهلية هي ما كان سيحصل، ومن ثم ليعود فيستقر الاستبداد.
نصف الأسكتلنديين على الأقل يدعمون استقلال بلادهم عن لندن. ولو أنهم نجحوا في كسب الاستفتاء الذي أجري في العام 2014، لكانت أسكتلندا دولة مستقلة الآن. ما كانت لندن لترسل قواتها المسلحة لتحتل أدنبرة. في حين أمكن لبغداد أن ترسل قوات وميليشيات وعصابات إلى كركوك وتطوق حدود كردستان مع تركيا وإيران.
في وقت ما، خلال هذا العقد، سوف يجرى استفتاء جديد في أسكتلندا. قيم الديمقراطية والقانون هي التي سوف تنتصر هناك في جميع الأحوال.
لم يقرأ السيد مسعود المعادلات الإقليمية على نحو صحيح. راهن على دعم إسرائيل. لم يفهم أنها ليست قوة أسطورية. إسرائيل كيان هزيل في الواقع، يستطيع فقط أن يهزم ما هو أكثر هزالا منه. وهي لا تقوى على أن تقف في وجه تركيا أو إيران، إذا قالتا لا، لأي انفصال.
هل تعرف مَنْ يمكنه أن يقف في وجههما؟ العراق القوي هو الذي يقدر.
لقد كان الرهان على عراق قوي، هو الرهان الوحيد الصحيح.
كان بوسع مسعود أن يكون، ليس قوميا كرديا فقط، بل وطنيا عراقيا أيضا. الجمع بين هاتين الهويتين، كان سيجعل منه بطلا في أعين كل العراقيين، عربا وأكرادا
لا حاجة لذكر أن دولة قوية في العراق كانت هي التي منحت أكراد العراق حقوقا وامتيازات لم يحظ بها أشقاؤهم في الدول المجاورة. لقد كان ذلك مؤشرا مفيدا. ولكن السيد مسعود، لم يتمكن من أن يراه.
بافل طالباني، زعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، المنافس الذي يهيمن على الجزء الشرقي من كردستان (سوران)، يتصرف على نحو أكثر اتساقا مع طموحاته. فهو لا يريد استقلالا، ولكنه يريد “حصته” من الغنيمة في العراق. فـ”وافق شن طبقة”، بينه وبين باقي الجماعات والميليشيات في بغداد. هذا تصرف مستقيم. خاطئ، ولكنه مستقيم. ضيق الأفق، ولكنه متوافق مع “أفقه” الخاص.
الرئيس مسعود وضع أفقا آخر عريضا أوهم به شعبه، ولكنه تصرف كحليف فساد لأهل الفساد. يصمت على جرائمهم لأنه كان يأمل أن يستفيد “إستراتيجيا” منها.
اتفاق النفط الجديد بين حكومته وبين حكومة الميليشيات في بغداد كان نتيجة مناسبة تماما لطموح سار في طريق أعوج.
كان بوسع مسعود أن يكون، ليس قوميا كرديا فقط، بل وطنيا عراقيا أيضا. الجمع بين هاتين الهويتين، كان سيجعل منه بطلا في أعين كل العراقيين، عربا وأكرادا، وذلك بأن يرد إليهم بلدهم من قبضة الفساد والعصابات. وما كان يمكن لعراقيين أحرار أن يردوه خائبا لو أنه طلب استقلالا.
السيد مسعود يتذرع بأنه لم يجد وطنيين عراقيين آخرين لكي يساندهم. والمعنى من ذلك هو أنه، إذ لم يجد إلا الحثالة، فقد كان مضطرا إلى التعاون معها.
وهذا غير صحيح. الوطنيون الذين حاربوا الاحتلال كانوا هم الأكثرية. وكان بوسعه، بعد أن بدت هزيمة الاحتلال واضحة، أن يكون جسرا لخيار آخر.
وفي الواقع، فقد أتيحت له الفرصة بعد الأخرى لأن يعيد تقويم المسارات من داخل البرلمان. فلم يفعل. غلب عليه الفساد، إلى درجة أنه أراد أن ينتخب فاسدا على رؤوس الأشهاد من أقاربه ليكون رئيسا للعراق. حتى لكأنه أراد القول: هكذا قمامة، لا يليق بها إلا برميل من هذا النوع.
اتفاق النفط الجديد بين بغداد والإقليم كان هو المسمار الأخير في نعش الاستقلال. الطموح تحول إلى كارثة. الحق المشروع والمقدس ضل الطريق بسوء المسالك والخيارات.
يقول المثل: ما نفع الركض، إذا كنت تركض في الاتجاه الخطأ.