علي الصراف يكتب:
تركيا بين زلزالين وانتخابات.. أردوغان العاقل هل يخلف المتغطرس؟
الزعيم الذي جاء إلى السلطة بزلزال، ما كان بوسع أحد زحزحته من دون زلزال. ولكنه فاز أو خسر في انتخابات 14 مايو المقبل، فإنه سوف يخرج منها مختلفا، تلاحقه الإدانات والاتهامات بالتعسف، أو تنتظر منه إجابات تحاشى مواجهة أسئلتها لعشرين عاما متواصلة.
رجب طيب أردوغان فاز بالسلطة في انتخابات العام 2002، ليس لأنه جاء من بيئة غير مجربة في السياسة التركية، على مقاس العلمانية الأتاتوركية، ولكن لأن الزلزال الذي أصاب مدينة أزميد في أغسطس العام 1999، وأدى إلى مقتل نحو 17 ألف مواطن، وتشريد نحو نصف مليون آخرين، كان نموذجا صارخا لسوء الإدارة والفساد في حكومات مسعود يلماز ونجم الدين أربكان وبولنت أجاويد على التوالي. فاختار الأتراك بديلا “صارخا” أيضا لذلك النموذج.
أردوغان كان لا يشك، على الإطلاق، قبل زلزال 6 فبراير الماضي أنه فائز بالانتخابات الجديدة، ليحكم خمسة أعوام أخرى فوق أعوامه العشرين في السلطة. هو الذي أمضى قسطها الأكبر رئيسا للوزراء، ثم فصّل نظاما رئاسيا على مقاسه ابتداء من العام 2014.
ولكن الزلزال زلزل الثقة به وبنظامه وبخياراته. حتى لم يبق من آماله للفوز سوى أن خصمه كمال كليجدار أوغلو “مهذب إلى درجة تجعله يبدو ضعيفا”، من ناحية، ولأنه علوي، أي أنه من منحدر أقلوي، من ناحية أخرى.
فاز أم لم يفز، أردوغان لن يعود هو نفسه. الأيام نفسها، لم تبق لغطرسته مكانا، وكشفت له أنها لا تصنع دورا، ولا تجلب منافع. العكس فقط هو الصحيح
وهو ما يعني أن أفضل حلفاء أردوغان، هو خصمه بالذات، وليس لأن حكومته أبلت بلاء حسنا في مواجهة الزلزال، ولا في السياسات الاقتصادية التي سبقته، فزلزلت الليرة، كما زلزلت معيشة الملايين من الأتراك.
وبمقدار ما يتعلق الأمر بزلزال فبراير وحده، فإن الضحايا والمشردين كانوا ثلاثة أضعاف ضحايا ومشردي زلزال أزميد. الأول، أطاح بحكومة بولنت أجاويد لتحل محلها حكومة “العدالة والتنمية” بقيادة أردوغان. والثاني، يفترض، نظريا حتى الآن، أن يطيح بحكومة أردوغان، أو بوجه الغطرسة فيها على الأقل.
استخدم أردوغان كل أدوات السلطة المتاحة لأجل ضمان الفوز. أعلن عن مشاريع نفط وغاز، قال إنها حققت نتائج مبهرة. وعرض نجاحات في بناء أول طائرة نفاثة وأول حاملة طائرات وأول سيارة محلية الصنع، وأول محطة نووية. ووعد بإعادة بناء ما هدمه الزلزال في غضون عام.
ولكن كل ذلك لم يخف شيئين: التضخم التي ظل يلتهم خبز الملايين. وعواقب الزلزال التي تتطلب استثمارات لإعادة البناء تزيد على 150 مليار دولار لا تملك تركيا شيئا منها.
وهناك عوامل أخرى راكمتها سلطة أردوغان على مسار العقدين الماضيين. منها الاعتقالات الجماعية التي أعقبت المحاولة الانقلابية في 15 يوليو 2016، ومنها التسريح الجماعي لمئات الآلاف من الموظفين بتهم الارتباط بحركة منافسه اللدود فتح الله غولن. ومنها مطاردته الضارية لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي في البرلمان وخارجه. ومنها أن الرجل لا يقبل المزاح، فيسجن كل من يقول فيه نكتة.
مشاريع أردوغان الخارجية انحسرت بعد أن تبين أنها صداع لا نفع فيه، وأنها إذا كانت محاولة للهروب من أزماته الداخلية، الاقتصادية منها على وجه الحصر، فإنها أوقفته على طواحين الهواء ليتأمل سيفه الخشبي حيالها. فعاد بخفي حنين من التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، مثلما عاد من النزاع مع اليونان حول حدود تركيا البحرية. وظل نفوذ بلاده في ليبيا موضع شكوك وإجماع إقليمي مضاد يلزمه في النهاية لكي يسحب قواته ومرتزقته من هناك.
أردوغان الجريح بالفشل أمام التضخم وانخفاض قيمة الليرة، انتهى إلى قناعة بأن اليد التي مُدت إليه من الإمارات والسعودية، خير له ولبلاده من الانجرار وراء حملات تشويه ومعارك دونكيشوتية لإسلامه السياسي، إذ لا طائل منها، وأن سياسة “صفر مشاكل” هي السبيل العملي الوحيد للتعامل مع دول المنطقة وقضاياها.
فاز أم لم يفز، أردوغان لن يعود هو نفسه. الأيام نفسها، لم تبق لغطرسته مكانا، وكشفت له أنها لا تصنع دورا، ولا تجلب منافع. العكس فقط هو الصحيح.
أما دول المنطقة، فقد أخذت حصتها من التغيير، بما فرضته عليه من العقلنة، فلم تعد تخشاه.
عشرون عاما في السلطة، يفترض أن تكون كافية. البعض يرى أنها كافية لكي يرحل. فإذا لم تكن كذلك، وشاءت الأقدار أن تعيد تقديم أردوغان على رأس السلطة من جديد، فإن المنطق سوف يقتضي منه، أن ينقلب هو نفسه على فشله
بقي أن يقرر الأتراك ما إذا كان الفساد هو الذي وقف وراء مأساة الزلزال. وما إذا كانت تركيا قادرة، من دونه، أن تقوّم اقتصاد البلاد الذي ما يزال يترنح تحت أعباء التضخم والديون. وما إذا كانت الطائرة الأولى والحاملة الأولى وغيرها من منجزات الدعاية التي تم حشدها على أعتاب الانتخابات، هي نتاج كفاح الأتراك أنفسهم لتكون بلادهم قوة شبه صناعية قادرة على شق طريقها التنموي الخاص. وما إذا كانت تركيا جزءا من أوروبا أم مجرد نتوء شاذ للمناكفات. وما إذا كانت انتهاكات حقوق الإنسان تكفل بقاء الاستقرار.
ولكن بالدرجة الأولى، بقي على الأتراك أن يقرروا، ما إذا كانت ديمقراطيتهم ناضجة بما يكفي، لكي تتحمل التعددية القومية، فتعطي الأقليات حقها في التمثيل. وما إذا كان الاستبداد سيرفع يده عن القضاء، فلا يتحول إلى سيف مسلط على الرقاب. وما إذا كان يمكن لهذه الديمقراطية أن تتسامح مع الطرائف والنكات.
الأتراك، وليس أردوغان وحده، ينتظرون انتخابات مايو المقبل كانتخابات مفصلية في تاريخ جمهوريتهم للإجابة على هذه الأسئلة. فعلى ضوئها تتحدد مسارات، في الاقتصاد والسياسات الداخلية والعلاقات الخارجية، لا شيء أوضح من أن أردوغان المتغطرس، فشل في خوضها مجتمعة، وكلا على انفراد.
ولو أنه فاز، فإنهم ينتظرون أردوغان آخر، عاقلا.
عشرون عاما في السلطة، يفترض أن تكون كافية. البعض يرى أنها كافية لكي يرحل. فإذا لم تكن كذلك، وشاءت الأقدار أن تعيد تقديم أردوغان على رأس السلطة من جديد، فإن المنطق سوف يقتضي منه، أن ينقلب هو نفسه على فشله.
الأتراك يستحقون صفحة أخرى، تطوي الغطرسة. وعليهم أن يقرروا ما إذا كان أردوغان قادرا على أن يكون رئيسا آخر. فيجرؤ على إطلاق سراح من اعتقلهم، ويعيد الوظائف التي سحقها، ويرسل إشارات قبول للتعايش السلمي مع الأكراد، ويبعث برسالة استعدادات للتكامل مع أوروبا، ويكف عن التدخل في شؤون الجوار، ويتخلى عن فكرة الاستعانة بمرتزقة لكي يملي من خلالهم مصالح لبلاده.
دون ذلك، فإن تركيا ليست بحاجة إلى زلزال ثالث، يقنعها بإزاحته.