علي الصراف يكتب:

ليبيا في الزلزال تبحث عمّن يوقف دورة الخراب

ليبيا

أمضت الأزمة في ليبيا نحو عامين من الدوران في الفراغ حول ما إذا كان يحق أو لا يحق للمشير خليفة حفتر أن يترشح للرئاسة. وذلك فوق عشرة أعوام أخرى من الدوران حول شرعية هذا دون شرعية ذاك.

ممتعٌ وساخرٌ هذا الدوران لعدة أسباب.

الأول، هو أن المشير حفتر ضامن الفوز لنفسه مسبقا، إلى درجة أن التمسك بنص دستوري، لا يستثنيه، أصبح مطلبا مقدسا حتى ليجوز أن تدور ليبيا كلها في الفراغ، ريثما يتم التوصل إلى “حل”.

والثاني، هو أن زلزالا مثل زلزال تركيا لن يقع في ليبيا. بمعنى أن الحياة خالدة لمن يطمح إلى الرئاسة فيها، وأن الأمر يستحق الانتظار، لأن عواقب الأقدار لن تأتي، ولا بأيّ صورة من الصور.

والثالث، هو أن الأزمة ذات طابع شخصي. وهذا أمر لا يتعلق بالمشير حفتر وحده. لأنه يتعلق، في الحقيقة، بكل الآخرين الذين لا يجدون متّسعا في أنفسهم للاستقالة، أو إتاحة الفرصة لغيرهم، لتسليك المسارات نحو إنهاء الأزمة في البلاد.

والرابع، هو أن القضية المقدسة، في ليبيا، ليست سوى قضية منازعات على المناصب بين أطراف المصلحة. لاسيما وأن غير المشير حفتر يفعلون الشيء نفسه.

والخامس، هو أن ليبيا تستطيع أن تنتظر طويلا حتى يفرغ البرلمان ومجلس الدولة من مناقشاتهما البيزنطية حول جنس الملائكة، أمذكر هي أم مؤنث؟ وهو ما يحدث بالضبط منذ أن بدأ “الحوار” حول التعديلات الدستورية المطلوبة، وحول قواعد إجراء الانتخابات، وغيرها من التفاصيل.

والسادس، هو أن الدول المعنية بالأزمة سوف تظل تتوسط وتحاول المساعدة إلى الأبد، ولن تضيق ذرعا بكل الذين تدور موائد السجال من حولهم. وكذلك هو حال الأمم المتحدة التي سوف تظل تستبدل مبعوثا بآخر، لكي يتعلم فنون التسويف من الليبيين.

والسابع، هو أن الانتخابات إذا جرت، فإن الشعب الليبي، الذي تظاهر ضد السلطتين شاعرا بالقرف منهما معا، لن ينتخب إلا واحدا من أولئك المتصارعين على السلطة، لأنه شعب لم يلِدْ ليومه ولا لمستقبله أحدا سواهم.

والأزمة التي تمتد منذ 12 عاما، ووفرت لكل طامح الفرصة لكي يتحاور مع طموحه بمفرده، يمكن أن تستمر 12 عاما أخرى، وأخرى بعدها، من دون أن تعرف ما الذي يعوّل عليه الطامحون وهم في خضم الانتظار الطويل هذا.

والأعمار تمضي، مثلما تمضي الأزمة نفسها. ذلك أن – وهذه مفاجأة – مَنْ كان عمره في مطلع الأزمة 68 عاما، صار عمره الآن 80 عاما. وهو عمر قد يصلح للتقاعد، أو لأيّ شيء آخر، إلا إطالة أمد الأزمة، دع عنك الرئاسة.. إذا جاءت.

المشير حفتر شخصية وطنية تستحق التقدير. هذا أمر لا شك فيه. ولقد بذل مجهودات ثمينة في مقاومة الإرهاب والتطرف، تُحسب لصالحه. كما نجح في المحافظة على الاستقرار في جزء من البلاد، ومنع تحوّله إلى نهب للميليشيات، مما يبرر مسعاه. إلا أن الوطنية ليست “أنا، ومن بعدي الطوفان”. إنها “تضحيات” كما قد يعرف كل جندي، أكثر مما قد يعرف سواه.

تقديم التنازل لوطنيين آخرين هو أثمن هدية يمكن للأنا أن تتلقاها في الكثير من الأحيان.

لا شك أن لدى المشير حفتر تصورا معينا لمستقبل ليبيا، ولما يمكن أن تمضي إليه أمورها الاقتصادية وعلاقاتها الإقليمية والدولية.

وبدلا من أن يكون أيّ أحد ممّن تتجسد الأزمة في شخصياتهم عائقا، فإن آخرين يتبنّون التصور نفسه، أو تصورا قريبا منه، يمكن أن يدخل حلبة المنافسة، ليس من أجل الرئاسة أو المناصب الأخرى، ولكن من أجل إخراج البلاد من محنة الدوران في الفراغ.

هذه المحنة، هي على الوجه الحقيقي للعاقبة، ليست محنة سياسية فقط. إنها محنة أدت إلى تفكك اجتماعي خطير، يسمح بالقول إن أحدا ممن يتربّعون على سدة القيادة لا يستطيع الخروج منها، لأنه بات جزءا منها، بحكم المتوالية القائمة بين تشكيلات حكومية ومنافسات أفرغت كل منصب من معناه.

لا تدوم أزمة لمدة 12 عاما، ولا تخاض فيها صراعات دامية، ولا تتحول البلاد فيها إلى نهب للفساد، ويظل شعبها ونسيجها الاجتماعي كما هو. هذا وهم يحسن أن يزول.

المشير حفتر، وأقرانه يخاطبون شعبا لا يعرفونه ولا يعرفهم. إنهم يخاطبون كيانا من الماضي وليس الكيان الذي مزّقته متوالية الدوران في الفراغ.

ليبيا، بلد في حاجة إلى إعادة تأسيس، اجتماعي واقتصادي ومؤسسي وثقافي. وهذه معركة لا تتطلب أن يخوض غمارها المتصارعون أنفسهم. لأنهم سوف يواصلون الدوران بالطريقة ذاتها، أو ربما أسوأ.

ليبيا، بمنتهى البساطة، في حاجة إلى قادة جدد، على كل صعيد ومستوى. تكنوقراطيون شباب، برؤية وطنية جامعة، وأيد نظيفة، حالمة بالتنمية والرفاه الاجتماعي، ويمتثلون لقيم القانون، هم الخيار الأنسب لإعادة البناء.

لقد ضاع جيل كامل في التشوهات الثقافية والسياسية التي صنعتها سلطة العقيد معمر القذافي. ولا أحد من المتصارعين يستطيع، أو يمكن أن تذهب به الجرأة إلى القول، إنه لم يكن جزءا من تلك التشوهات أو إن قالبه الذهني والسلوكي لم يتأثر بها، ليزعم أنه، في تلك الأثناء، كان يعيش في المريخ.

ولقد ضاع جيل آخر، في الحرب الأهلية الراهنة، حتى ليجوز القول إن قادتها فشلوا في الحد مما أحدثته من دمار. كما فشلوا في إدارة المخارج منها، كما قد تشهد بعثات الأمم المتحدة نفسها التي توالت عليها شخصيات محايدة وجديرة بالثقة.

المشير حفتر، هو نفسه فتحي باشاغا، وخالد المشري وعبدالحميد الدبيبة وعقيلة صالح، وصولا إلى صلاح بادي وهيثم التاجوري وأسامة الجويلي. هؤلاء، وغيرهم، هم أهل الأزمة. ولقد أثبتوا للقاصي والداني، أنهم ليسوا أهل الحل. وهم ليسوا مؤهلين ثقافيا على الأقل ليكونوا بناة دولة بالمعايير الحديثة.

الميليشياوية السائدة في ليبيا، هي تعبير عن تفتت الطغيان، وليست تعبيرا عن زواله. ولا هي تعبير عن الاحتجاج عليه. لأنها استمرار له بأشكال أخرى.

وهذا ما يعرفه الليبيون بوعيهم الجمعي، ويشعرون به، بقول أو من دون قول.

جدير بالمشير حفتر، ربما أكثر من غيره، بأن يوقف عجلة الدوران في الفراغ. جدير به أن يثبت أن الوطنية هي التضحية بالنفس. هذا ما يفعله الجنود الشجعان عادة.

لا حاجة إلى توقّع زلزال، يقلب الأرض وما عليها. ليبيا في الزلزال أصلا، منذ 12 عاما. وقد آن الأوان لبعثة إنقاذ وطنية من جيل ثالث.