علي الصراف يكتب:

السعودية والإمارات باب مفتوح للرحمة

لم ينس، مَنْ شاء ألا ينسى، حجم الإساءات التي وجهتها سلطة الرئيس رجب طيب أردوغان للإمارات والسعودية. لم ينس حجم الأضرار التي تعرضت لها السعودية على وجه الخصوص، من جراء التصعيد السياسي والتحريض الإعلامي والاتهامات المجانية عقب مقتل الناشط السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول. لم ينس ما شكله الوجود العسكري التركي في قطر من إشارات تحد إلى الدرع العسكري لمجلس التعاون الخليجي، ولكن كل هذا تبدد عندما وجدت تركيا نفسها في أزمة إنسانية، ربما كانت الأكبر في تاريخها، التي أعقبت زلزال السادس من يناير الماضي.

ببساطة، كانت الإمارات والسعودية أكبر من قدم مساعدات الإغاثة، وأكثر من وفر المال، حتى بلغ الأمر أن أودعت السعودية 5 مليارات دولار لدى المصرف المركزي التركي. وهو أكبر مبلغ تحصل عليه البلاد لضمان استقرارها النقدي ولتوفير السيولة اللازمة لأعمال إعادة البناء وإغاثة المنكوبين. وحيث إن هذا المال يودع من دون فوائد، فإنه سيوفر لتركيا مئات الملايين من الدولارات سنويا، وعلى امتداد مدة الوديعة، لمجرد وجوده في المصارف، دع عنك استثماره.

الإمارات نظمت المئات من الرحلات الجوية إلى تركيا وسوريا، ومنذ اليوم الأول تبرعت بمئة مليون دولار على سبيل المساعدة. وتم نقل أكثر من ثلاثة آلاف طن من مواد الإغاثة.

فتحت الإمارات والسعودية بابا للرحمة. يدخله من شاء أن يرحم نفسه، ليجني من معانيه، ما يجعله قادرا على أن يقوى على المصاعب والمصائب

وفي المجموع، فما من أحد على سطح الكرة الأرضية قدم لتركيا في هذه المأساة ما قدمه هذان البلدان. والمساعدات لا تزال مستمرة أيضا.

كان لديّ اعتقاد مسبق يقول إن الخليجيين، بحكم الطبائع العامة، لا ينسون الإساءة. ولقد ثبت الآن أنه اعتقاد خاطئ تماما. إنهم ينسون. ويتناسون. ويغفرون. ولديهم من سعة الصدر ما يكفي لكي يجعلوا من التسامح أساسا لصفحة بيضاء، أنقى في بياضها من كل الصفحات السابقة.

يقال “الصديق وقت الضيق”. ولكن الإمارات والسعودية قالتا ما هو أكثر من ذلك بكثير. قالتا إن العلاقة مع تركيا أقرب إلى الأخوة من الصداقة. أقرب إلى الشراكة من التضامن. وأقرب إلى التحالف من مجرد علاقات الجوار الإقليمي. كما لا توجد منافسة أيضا حيال أي سباق إستراتيجي أو تنموي.

هذه سعة صدر أوسع من غيرها حتى لكأنها باب من أبواب الرحمة.

ولكنها درس أيضا في معاني الأخوة الإنسانية. درس يكفي للشفاء من حزمة أمراض كانت مصدر شقاء وأزمات، بددت الكثير من الوقت، ودمرت حياة الكثير ممن كان بوسعهم أن يعيشوا حياة أخرى.

إنها درس لقطر، يقول إن مصالحة العلا، مصالحة فعلا، صدرت من القلب لتبقى. وأن الأخوة أجدر من سواها، وأن التحريض العدائي لم يفشل في تحقيق غاياته فقط، ولكنه فشل في أن يجعل من قطر خصما أو عدوا. فشل في أن يمزق النسيج الخليجي لصالح نزعات سياسية لم يثبت الواقع جدواها. كما فشل في أن يحطم وشائج الشراكة الأمنية والإستراتيجية في الكتلة الخليجية التي أثبت صاعد الأيام ونازلها، أنها أصلب عودا من أن تتحطم أو يُستغنى عنها بغيرها.

إنها درس لسوريا، لم يعد يذكر “أنصاف الرجال” عندما وُجهت كإهانة. درس يتذكر أن سوريا، مهما تغالبت عليها المصاعب والمصائب، تظل جزءا من نسيج المنطقة، وشعبها يظل جزءا من نسيج شعوبها، والجرح يشفى، ويمكن أن يحل محله الترفع على كل ماض مضى، ليتطلع إلى مستقبل تسوده قيم الاحترام والمودة والتعاون ورفع الشأن المتبادل. الأيام تمضي، ومن الخير أن تمضي معها نوازع الشقاق والتناحر، لتبني ركائز أخرى للترابط الأخوي والعون على فعل الصواب السياسي، بدلا من غيره.

إنها درس لإيران، يمكنه أن ينسى صواريخها وطائراتها المسيرة وأعمال ميليشياتها، ليقول إن هذا البلد يستطيع أن يجد في جواره من يمكنهم أن يكونوا عضدا تنمويا على فقره، وسندا على ما يواجهه من ضغوط، وقوة شراكة أمنية تحل محل ثقافة التهديد ونشر الخراب والانقسامات.

 كانت الإمارات والسعودية أكبر من قدم مساعدات الإغاثة، وأكثر من وفر المال، حتى بلغ الأمر أن أودعت السعودية 5 مليارات دولار لدى المصرف المركزي التركي

إنها درس للحوثي، يقول له إن كل ما تم ارتكابه من جرائم يمكن أن يُطوى كما تطوى الصفحة في كتاب الأزمة التي طحنت ملايين اليمنيين، في تنافس سياسي، كان يمكن حله بوسائل أخرى غير الانقلاب وغير الحرب. ثم يقول إن اليمن أولى بأن ينتسب إلى بيئته الطبيعية من أن يتحول إلى ركيزة للعدوان على هذه البيئة، لأنها هي التي تغنيه، بينما ركيزة العدوان تفقره، وتحط من شأنه، وتجعله لقمة سائغة للفشل الأمني والسياسي والاقتصادي.

كما أنها درس لكل الآخرين. درس لمن تنكر ليد العون عندما امتدت له، فاكتشف “الحفاة العراة” بعد شبع مما قدمه “الحفاة العراة”. ودرس لمن غلبت عليه أمراض الحقد فحولها إلى تجارة مخدرات. ودرس لمن جعل من عقائديته المذهبية أساسا للعمى السياسي عما هو أهم وأبقى: حياة الناس ورفاهيتهم.

لم تقف الإمارات والسعودية وقفة الأخوة والتضامن الإنساني مع تركيا، إلا لتقف لمعانيها. وإلا لكي تحولها إلى منهج سياسي، يتحول الآن، بفضل ما شقت أبوظبي الطريق إليه، إلى عدوى شفاء من أمراض التنازع والتناحر والانقسامات والحروب والصخب، لكي تلتفت إلى ما هو أجلّ وأبقى: العيش في منطقة آمنة، تبني لنفسها، وتعمر لأجيالها بما لم يكن بوسع أي توجه آخر أن يحققه.

درس قال إنك عندما تكبر على الإساءة، فإنها تصغر وتصغر أغراضها معها، ويكبرُ الكِبر.

فتحت الإمارات والسعودية بابا للرحمة. يدخله من شاء أن يرحم نفسه، ليجني من معانيه، ما يجعله قادرا على أن يقوى على المصاعب والمصائب.

إنه باب يكشف عن قلوب وعقول نيرة. تنير بالخير وتستنير به.