سمير عطا الله يكتب :

اللغة كأستاذة

العلاقة اليومية باللغة ملاحة يومية في بحارها. أو لعلني أقصد في محيطاتها. كل لحظة، اللغة هي التي تعلمك، لا أنت. لذلك رفع العلماء أيدي الاستسلام وقالوا، الله أعلم. وهو أجمل ما قيل في اللغة وأبهى ما أظهره العلماء من شيَم التواضع.
كنت الآن في صدد الكتابة عن أحد رجال المعرفة. وفي تلقائية عفوية سريعة، وصفته، للمجاز، بالبحر. ووجدتني مقصراً وشاعراً بالذنب، فقلت إنه محيط. فخفت أن أتهم بالمبالغة، ولو كان القصد واضحاً. فما هو الوصف الأكثر دقة، إذن، بحيرة؟ لا. إنها إهانة. إنها شيء محدود، بلا آفاق، بلا امتدادات مهما كبرت، حتى بحيرة فيكتوريا التي يولد منها بحرُ النيل، ليست بحراً. فالبحر مالح. وتسمية النيل به، مخالفة علمية وصدق عاطفي. وولاء ووفاء كثير. فهل تتوقع من الفلاح المصري أن يسمي هذا المارد شيئاً آخر؟
تُمسك الأستاذة لغة بيدك وأنت تكتب لئلا تسيء وترى أن الأشياء بسيطة ومفروغ منها. وأنت مغرور وتكتب من قفا يدك. يا ولد، احفظ دائماً تحذير رولان بارت، أحد أمراء اللغة الفرنسية. قال: الكاتب شيء، والمسوّد شيء. واحد مجتهد وواحد ضحل. مبتكر ونسّاخ. الفرنسي الآخر جان دورمسون كان أكثر تعلقاً بشرف المهنة: إذا حرمت أن تكون عبقرياً، يبقى للكتابة ثلاثة شروط: الموهبة فالموهبة ثم الموهبة. في إمكانك أن «تسوِّد» غابة من الورق دون أن تكتب كلمة واحدة. منزل أم بيت أم نزل أم مأوى أم كوخ أم قصر أم حصن أم مبنى أم دار (بالفلسطينية). حاذر. البيت يكون أحياناً وطناً أيضاً. النزل عابر. الكوخ شقاء. المبنى بلا هوية. المأوى حزن. القصر أسطورة. الشقة (حتى الأمس) عزوبية. ليس هذا غنى العربية وحدها، لكنها الأغنى. ولد العربي في أجرد البقع وعوَّض عن ذلك بأخصب اللغات. مفردة خلف أخرى. مشتقات بلا حدود. قاعدة صارمة وشواذات ظليلة. وإذا تعقَّد هذا، وصعب ذاك، فالله أعلم.
الشيء الوحيد الذي لا يحل عليه غفران هو أن تدلق الحبرَ دلقاً. هذا لا يحتاج إلى أكثر من سطل. صدقني أن الفارق واضح وواضح. لا الكتابة ترحم ولا القراءة طويلة البال. غيَّر رامبو الأدب الفرنسي ببضع قصائد. وغيَّر فرانز كافكا الأدب الألماني بروايتين أو ثلاث. ويوسف إدريس جعل من القصة القصيرة ملحمة الحياة. احتفل أخيراً بمئوية جي. دي. سالينجر في أميركا: كتاب واحد وموهبة، جعلته يبيع ملايين النسخ.