د. ماهر سليم يكتب لـ(اليوم الثامن):

إصلاح التعليم العالي في الأردن: ضرورة وطنية لمستقبل التنمية

يواجه التعليم العالي في الأردن تحديات بنيوية وتشغيلية متفاقمة تهدد جودته وتضعف دوره كمحرك للتنمية الوطنية. التوسع الكمي غير المدروس، تراجع التمويل، ضعف الحوكمة، وفقدان الثقة المجتمعية في مخرجاته، جعلت إصلاح هذا القطاع ضرورة وطنية ملحة، لا مجرد خيار سياسي مؤجل. يتطلب الإصلاح رؤية شاملة ترتكز على الواقعية والتخطيط الاستراتيجي، مع التركيز على مواءمة التعليم مع متطلبات سوق العمل، تعزيز البحث العلمي، وتحسين الحوكمة الأكاديمية.

التحديات: عقبات تعيق التقدم

أولى التحديات تتمثل في الفجوة المتسعة بين مخرجات التعليم العالي واحتياجات سوق العمل. تخرّج الجامعات الأردنية آلاف الطلبة سنويًا في تخصصات مشبعة أو غير مواكبة لاحتياجات الاقتصاد، في ظل غياب رؤية وطنية توجه التخصصات نحو القطاعات ذات الأولوية. هذا الخلل يفاقم البطالة بين الخريجين ويضعف الثقة في النظام التعليمي.

ثانيًا، يعاني البحث العلمي من ضعف التمويل ونقص الحوافز، مما يحد من قدرة الجامعات على إنتاج بحوث تطبيقية تخدم المجتمع والصناعة. المختبرات الجامعية عتيقة، والمشاريع البحثية غالبًا منفصلة عن الاحتياجات الوطنية، مما يقلل من تأثيرها التنموي.

ثالثًا، تتأثر حوكمة الجامعات بتدخلات سياسية وشخصية تؤثر على تعيينات أعضاء هيئة التدريس والإداريين، حيث تسود المحسوبية والجهوية على معيار الكفاءة. هذا يضعف استقلالية الجامعات ويؤثر سلبًا على جودة التعليم.

رابعًا، يعاني التعليم التقني والمهني من عزوف مجتمعي بسبب الصورة النمطية السيئة المرتبطة به، رغم أهميته في سد احتياجات سوق العمل. هذا التحدي يتطلب تغييرًا ثقافيًا وتشريعيًا لتعزيز مكانة هذا المسار.

خارطة طريق لإصلاح شامل

لمعالجة هذه التحديات، يتطلب الأمرر نهجًا متكاملًا يركز على إعادة هيكلة التعليم العالي ليكون أكثر كفاءة وتأثيرًا. أولى الخطوات تتمثل في تعزيز التعليم التقني والمهني من خلال حملات إعلامية تغير النظرة السلبية، مع سن تشريعات تحفز الطلبة وأولياء الأمور، وبناء بنية تحتية متطورة تجعل هذا المسار خيارًا جاذبًا.

ثانيًا، يجب مواءمة التخصصات الجامعية مع احتياجات سوق من خلال إغلاق التخصصات المشبعة، واستحداث برامج تخدم الرؤية الاقتصادية الوطنية، مع مراجعة دورية للمناهج بالتعاون مع القطاع الخاص.

ثالثًا، تعزيز البحث العلمي يتطلب زيادة المخصصات المالية، وتقديم حوافز للباحثين، وتشجيع الشراكات مع الصناعة لتوجيه البحث نحو حل المشكلات الواقعية.

رابعًا، تحديث المناهج وأساليب التدريس ضروري لتطوير برامج دراسية تتوافق مع مهارات القرن الحادي والعشرين، مثل التفكير النقدي وحل المشكلات، مع تعزيز استخدام التكنولوجيا التعليمية والتعلم التفاعلي.

خامسًا، يجب تأهيل أعضاء هيئة التدريس من خلال برامج تدريب مستمرة تركز على أساليب التعليم الحديثة، للإبتعاد عن التلقين وتعزيز التفاعل مع الطلبة.

سادسًا، تطوير نظام قبول عادل يعتمد على الكفاءة والقدرة، مع إدخال اختبارات تخصصية تقيم استعداد الطلبة الفعلي، بدلاً من الاعتماد الكلي على المعدلات.

سابعًا، تعزيز البنية التحتية الرقمية من خلال استثمار في منصات التعلم الإلكتروني وتوفير محتوى رقمي عالي الجودة يتيح تعليمًا شاملاً للجميع.

ثامنًا، منح الجامعات استقلالية إدارية وأكاديمية أكبر، مع اعتماد معايير حوكمة رشيدة وشفافة تتوافق مع الجودة العالمية.

أخيرًا، يتطلب تمويل التعليم العالي استراتيجية وطنية تعتمد على شراكات بين القطاع العام والخاص والمجتمع المدني، لضمان استدامة التمويل وتحسين البنية التحتية.

الإصلاح: ضرورة وطنية ملحة

إصلاح التعليم العالي في الأردن لم يعد خيارًا يمكن تأجيله، بل ضرورة وطنية لضمان استقرار المجتمع وتقدمه في ظل تحديات الاقتصادية والاجتماعية. الإصلاح يحتاج إلى إرادة سياسية قوية، وشراكة مجتمعية فاعلة، ولجنة وطنية مستقلة تضم خبراء من القطاعين العام والخاص لوضع خطة تنفيذية قابلة للقياس والمساءلة.

الإنسان الأردني هو الثروة الحقيقية للوطن، ولن يكون قادرًا على المنافسة والإبداع إلا من خلال تعليم عالٍ رصين، حديث، وعادل. إن استثمارنا في التعليم العالي اليوم هو استثمار في مستقبل الأردن، وهو السبيل لتحقيق التنمية المستدامة والاستقرار الاجتماعي.