يوسف الديني يكتب:

دول الخليج بين الاستهداف والاستثناء

كشفت الازدواجية والتناقضات التي يمارسها عدد كبير من المنظمات الحقوقية والمؤسسات الصحافية، عن عطل كبير؛ ليس في فهم ومقاربة حالة الخليج السياسية والأمنية؛ بل في توصيف ومقاربة الفاعلين السياسيين، ممن يطلق عليهم وصف المعارضة. وبعيداً عن الحديث عن الدوافع وطرائق الاستهداف ولغة الخطاب، فمن المهم قراءة هذه التناقضات التي تقترب اليوم مع ما نراه إلى حدود ما يمكن تسميته «الهرطقة السياسية». فالحديث عن واقع دول الخليج ضمن عموميات القيم الحقوقية ومفاهيمها التي تقرها بشكل مجمل الأنظمة الحاكمة في الخليج، وتنخرط دعماً وتأييداً في اتفاقياتها الدولية، شيء يختلف تماماً عن استخدام تلك القيم للمساس بسيادة تلك الدول، ونقد مؤسساتها القضائية، بناء على حالات إما ما زالت منظورة في القضاء وإما تم الحكم على المتهمين فيها بأحكام تتصل بانتهاك قوانين تلك الأنظمة، والتي لا تتطابق مع الفضاء السياسي في الدول التي تنطلق منها تلك المنظمات الغربية. فطبيعة أنظمة الحكم مختلفة، إضافة إلى اختلاف المجال السياسي، وبالأخص عدم وجود أحزاب سياسية، وبالتالي معارضة ممأسسة لديها برامجها وخطتها وفرصتها ضمن العمل السياسي.
هناك لاعبون سياسيون يطلق عليهم وصف «المعارضة» ضمن سياق التسامح الإعلامي وعدم الدقة الموضوعية. هذا التجاوز في التسمية جزء من أصل الإشكالية في التوصيف، ومن ثم الحكم واتخاذ المواقف من قبل المؤسسات والمجموعات الحقوقية الغربية، إذا افترضنا حسن النوايا في هذا الاستهداف المحموم، فالمعارضات في الخليج مرت بأطوار وأشكال مختلفة؛ لكنها آلت على الأقل في التجارب الأخيرة منذ لحظة «الثوروية» التي طالت الإسلام السياسي في منتصف الثمانينات، وتضخمت مع حرب الخليج، قبل أن تأتي لحظة «الربيع العربي» لتنتج معارضات هجينة بين فلول الإسلام السياسي ولاعبين جدد، معظمهم - وفق منطوق خطابهم المنشور - يمارسون دور الاحتجاج في قضايا متصلة بالحريات وملف المرأة، وفي التفاصيل فإن المعارضات الإسلاموية دخلت على الخط، بعد فشل مشروع العنف المسلح الذي قادته تنظيمات متطرفة، بعد أن وجدت انفراجة في ثقافة الحقوق عموماً، وتطوراً في مؤسسات دول الخليج ذاتها؛ لكن تلك المعارضات لم تمارس خطاباً سياسياً، وإنما مشروعات انقلابية هدفها المساس بجذر الدولة واستقرارها، وليس توسيع صلاحيات العمل السياسي أو الفعالية المجتمعية. وفي المقابل ورثت المعارضات الهجينة، وغالبها مجموعات صغيرة أو أفراد، وبالتالي نقلت احتجاجها حول قضايا وملفات «تنموية» أو تتصل بالحريات الاجتماعية إلى مصاف المعارضة السياسية ولغتها، فوقعت في مأزق مفاهيمي ثم قانوني، قبل أن تتورط في ممارسات لا علاقة لها بمطالبها الأولى، المختلف عليها داخل المجتمعات الخليجية.
وإذا كنا قد تجاوزنا التباس المعارضات الإسلاموية التي تحمل مطالب انقلابية بعد فشل الربيع العربي، فإن المعارضات الهجينة ومن يتبناها من المؤسسات الحقوقية، وقعت في فخ عدم التمييز بين مفهوم المعارضة الغربية الذي يعني الدفع بالأنظمة السياسية المنتخبة والمتغيرة إلى التحسين، أو مطالبتها بمغادرة الملعب السياسي، مع بقاء قوة تلك البلدان واستقرارها؛ حيث التمييز واضح بين الحكومة والنظام ومستويات العمل السياسي.
المنظمات الحقوقية وقعت أيضاً في التباس، تبعاً للقياس على فضاءاتها السياسية التي تختلف عن دول الخليج والمنطقة بشكل عام، حتى في الدول التي تمارس شكلانية ديمقراطية، وليس فقط في الملكيات المستقرة والعريقة. هذا الالتباس تأرجح بين تبني المطالبات بملفات وقضايا جزئية لا يمكن لها أن تشكل في أي بلد من بلدان العالم تهديداً للنظام، وبالتالي الاستقرار، وبين تأييد خطاب المعارضات الهجينة في الخليج، التي ورثت إشكالية عدم التمييز بين تهديد الاستقرار والسيادة وبين المطالبة بأكبر قدر من التطوير؛ بحيث إنها ظلت تمارس خطاب الاحتجاج حتى بعد التحولات الهائلة التي تجاوزت حتى مطالبها القديمة، كما رأينا في ملف المرأة والحريات العامة في المجتمع، وحتى في تطوير تلك الدول - وفي مقدمتها السعودية - لجسدها السياسي، عبر التغييرات الوزارية، وإعادة إصلاح جذرية لعدد مهم من المؤسسات الأمنية والخدماتية.
هذا الارتباك في مفهوم المعارضة السياسية، أدى إلى تفشي ثقافة الأزمة في اللاعبين الهواة في السياسة، في بلدان لم تختبر تجربة الأحزاب السياسية، فضلاً عن أنه لا يمكن بأي منطق موضوعي قياس وضعيتها الحقوقية على بلدان أخرى، عرف فيها اللاعبون السياسيون ثقافة المعتقل، وخاضوا تجارب العنف المتبادل بينهم وبين الأنظمة.
هناك أصولية سياسية اليوم في الأصوات التي بدت نشازاً عند عموم المجتمعات الخليجية، ورثتها عن الأصولية الدينية السابقة، والتي تأثرت - بحسب المفكر الفرنسي أوليفييه روا - بالثقافة العصرية المدنية، وبالتالي بات من السهل إنتاج خطابات تبدو سياسية ذات طابع أصولي، ما دامت تلك «المعارضات» كما تسمَّى تكرس الفصل بين الأدوات والسياقات التاريخية لها. ولتوضيح هذه الفروقات التي قد تبدو نظرية، يمكن التدليل على ذلك بحجم الخلل في خطابات المعارضة التي لم تختبر العمل السياسي لطبيعة فهم الديمقراطية والمجتمع المدني، والفروقات بين الدولة ونظام الحكم والحكومة والقوى السياسية، فالنظر إلى الديمقراطية بوصفها فقط «آلية» لتسيير المجال السياسي، وتنظيم تداول السلطة هو قطع لصلاتها الاجتماعية التي نشأت فيها، وحتى إساءة إلى كل التراث الفكري الإسلامي الضخم الذي تصالح معها، وحاول مفكرو النهضة البحث عن بيئة ملائمة لها داخل الفكر الديني، من خلال ربطها بمفهوم الشورى. هذا الدمج ليس إلا تأكيداً على أن التعددية السياسية والإطار الديمقراطي ليس مجرد آلية يمكن استنباتها بقوة القانون أو بحكم الأمر الواقع، أو حتى كنتيجة طبيعية وسلسلة للاحتجاجات والثورات. الديمقراطية في مفهومها الجذري تستلزم الإيمان بحق كل الأطراف، وبشكل متساوٍ، في الحصول على الفرصة ما دام أن هناك شريحة ما تتبنى خياراتها السياسية.
الخيارات المدنية التي تؤسسها ثقافة الديمقراطية هي القطيعة مع الرأي الواحد، ومع الوثوقية والاستعلاء بالذات، سواء كانت بشعارات ومضامين دينية، أو حتى من خلال الافتئات على خيارات الشعوب، لا سيما الأغلبية الصامتة التي باتت توصف أحياناً بالفلول، ورجيع النظام السابق، وحزب الكنبة، أو المطبلين، وتلك الأوصاف التي تستبطن «ديكتاتورية» المعارضات، بشكل بات تستهجنه الغالبية في المجتمعات الخليجية، التي تؤكد في خطابها المعلن والمضمر عبر منصات التواصل الاجتماعي على أولوية الاستقرار.
وبإزاء هرطقة فصل الديمقراطية عن مستلزمات الحداثة، ثمة هرطقة لا تقل عنها، أنتجتها فوضى المفاهيم لمرحلة «الثورات». هذه الهرطقة السياسية تكمن في افتعال أزمات ذات طابع ديني، على اعتبار أن كل الخيارات السياسية التي تستبعد الإسلاميين هي محاربة للدين ذاته، ومن هنا يمكن فهم الآن حالة التجييش، سواء في مصر، وكانت من قبل في تونس والمغرب، وفي تجارب سابقة بالأردن والكويت. فالاختلاف مع الإسلاميين ليس بالضرورة اختلافاً مع الإسلام، لا سيما أن أغلب الأحزاب الليبرالية، وحتى العلمانية منها، تعلم جيداً أن الدين مكون أساسي للمجتمعات الإسلامية، كما أن هذه القراءة السطحية لعلاقة الحداثة بالدين هي نتاج مرحلة الصراعات بين الإسلاميين والأنظمة الحاكمة، وليس تجاه الحداثة ذاتها، وحتى في السياق الغربي، فتجربة لوثر الإصلاحية كانت ضد احتكار الكنيسة الكاثوليكية للتمثيل الديني.
الخلط بين الحداثة السياسية كسيرورة وحركة حضارية، وبين مجرد الشعارات الحقوقية والديمقراطية، أدى إلى هذه الفوضى في الخطاب السياسي لدى من يطلق عليهم وصف «المعارضة». وكان واضحاً في فترة الاحتجاجات التي عبرتها المنطقة (الربيع العربي) كيف آلت الممارسة السياسية لدى التجارب التي وصلت إلى الحكم عبر آليات الديمقراطية، في حين أنها تخلت عنها مع أول يوم في الممارسة.
أسئلة المنطقة بالأمس واليوم، رغماً عن كل هذه الفوضى السياسية التي نشهدها، ظلت في ملفات واضحة يدعمها الجديد، تتصل بتحديات تحسين الأوضاع الاقتصادية والمنافسة في سوق المال، ومحاولة معالجة الآثار المترتبة على الفقر المدقع، وانتشار الأمية والجريمة في بلدان الشرق الأوسط. وهي بالمناسبة اليوم باتت أسئلة «وجودية»، في كثير من البلدان التي يتوقع أن تنهار اقتصاداتها بشكل تختلف سرعته بمقدار المعونات التي تصلها، بسبب أن الحصة الكبرى من الناتج القومي والمداخيل مرتبطة بقدرة هذه الدول على جذب استثماراتها وسياحها، وتصدير الأكفاء من أبنائها ليعودوا بتحويلاتهم المالية التي تنعش الاقتصاد.
تحسين الأوضاع المعيشية قفز من عالمنا إلى العالم الأول، كما نرى في فرنسا، رغم ريادة الجمهورية في التأصيل للخطاب السياسي والحقوق والتعددية؛ لكن قدرتها على الاستقرار والحفاظ على الإرث التاريخي باتت معلقة بالإجابة عن سؤال تحسين الأوضاع والعيش الكريم، وليس الفعالية السياسية فحسب.
بلدان المنطقة التي يطلق منها ثوار السياسة صراخهم تجاه بلدان الخليج، ويتم تبنيهم بشكل يومي من قبل قنوات رعاية الخرائب والفوضى كـ«الجزيرة»، تعيش أزمة تحقيق الاستقرار؛ حيث تقف على تخوم كوارث اقتصادية عميقة، رغم كل رياح الثورة والتغيير التي مستها. فهي ليست عالقة في سؤال الحريات بالشكل العام أو الجزئي المرتبط بالحقوق، ولذلك فإن فوز أو انتصار أي حزب معارض فيها بكعكة السلطة، يصبح ورطة أكثر من كونه جائزة، في حال وصول الأوضاع الاقتصادية إلى نهايات مسدودة.
التحرير الاقتصادي أولوية دول المنطقة، لا سيما التي تحظى بثقة الأغلبية فيها، بغض النظر عن تاريخها أو إنجازاتها، أو الملاحظات النقدية التي تطال التفاصيل المتصلة بحالات لأفراد يتم تضخيمهم في الإعلام الغربي والمؤسسات الحقوقية، على أنهم جزء من خطاب معارضة. فالواقع العربي إجمالاً يعيش أزمة، ما لم يتم التسريع في برامج الخصخصة والإصلاحات الاقتصادية المتوازنة، مع إيجاد ضوابط صارمة لمراقبتها ومكافحة الفساد.
ما يتم إغفاله اليوم، جهلاً بواقع المجتمعات في المنطقة، أو لأغراض تقويضية لاستقرار الدول، هو أن الخطابات الاحتجاجية التي عادة ما تتطور إلى حالة تمرد الشارع وإنتاج للفوضى، ويتم وصفها بـ«الثورة»، هي في الأساس بقيادة أفراد ومجموعات من الطبقة الوسطى، بينما ينتاب الطبقات الفقيرة والمهمشة الهلع من مجرد التغيير، خوفاً من الانهيارات السحيقة.
ردة فعل المجتمعات الخليجية اليوم باتت أكثر حذراً؛ خصوصاً بعد انكشاف عدد من التناقضات الضخمة. فمن يريد ويدفع إلى بقاء أنظمة أبادت شعوبها وهجرت الجزء الأكبر منهم، ويتذرع بالواقعية السياسية والحفاظ على الحد الأدنى من بنية الدولة وشكلها، كما رأينا في التعامل مع الأزمة السورية، عليه أن يتحلى بالحد الأدنى من المنطق والعقلانية في التعامل مع دول خليجية تحظى بالرفاه والاستقرار، وتصحيح أخطائها عبر التغيير المستمر والبحث عن الأصلح لمجتمعاتها، ولا يقع في تناقض استثنائها من تلك الواقعية بحملات استهداف انتهازية، ترفضها المجتمعات قبل الحكومات.