الحبيب الأسود يكتب:

تونس في ظل الاختراقات الأفقية

تواجه تونس وضعية صعبة على جميع المستويات، غير أن حالة الانقسام المجتمعي تبدو الأصعب والأخطر على مستقبل البلاد. التونسيون اليوم مشتّتون وتائهون بين مسارات متناقضة. وبينما يتحرك العالم بسرعة نحو المستقبل، تجدهم يقفون عند حدود الأمس، وكأنهم في حاجة إلى وقفة طويلة حتى يكتشفوا أنفسهم من جديد. في ذات الوقت تعود مسألة الهوية لتفرض نفسها على مجتمع يبدو أنه يدفع ضريبة وهم التميز على مستوى المنطقة، قبل أن يكتشف أن للحقيقة وجوها أخرى، وأن المسكوت عنه سابقا هو الذي بات يحدد مصير البلاد حاليا.
منذ أيام، جاءت قضية ما يسمى بالمدرسة القرآنية في إحدى المناطق الريفية بوسط البلاد، لتفضح واقع ما بعد 14 يناير 2011، حيث اتسعت دائرة التجاذبات والمعارك التي، وإن كان يقدمها البعض على أنها جانبية، فإنها تدخل في قلب الصراع على التحكّم والسيطرة. تلك المدرسة لم تكن سوى معسكر لأطفال قادمين من مختلف المناطق، يتم إخضاعهم لدورات تكوينية مغلقة ليس في حفظ القرآن، وإنما في التشكّل العقائدي المتشدد، والذي يبدأ بتكفير المجتمع وينتهي بإعلان الحرب عليه.
أحد أعضاء البرلمان، من الذين يتبنّون مشروع الإسلام السياسي، هرع مسرعا إلى مركز الإيواء الذي استضافت فيه الدولة الأطفال المنتشلين من ذلك المعسكر، واتجه إلى أحدهم ليسأله: ماذا تدرسون في مدرستكم؟ فأجابه: نحفظ القرآن الكريم ونتعلم النحو والصرف. سأله النائب: هل تدرّسون مواد أخرى كالتاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية؟ فرد عليه الصبي مستنكرا: هل تريد منّا أن نتبع ملّة الدولة؟
هؤلاء الأطفال تم إقناعهم بأن عليهم أن يكونوا نقيضا للدولة والمجتمع. تعلموا في ذلك المعسكر أن مشاهدة التلفزيون حرام، وسماع الموسيقى حرام، والتعامل مع التقنيات الحديثة لا يجوز، بل وصل الأمر إلى أن مسؤولة تربوية مدت يدها لتصافح أحد الأطفال، فامتنع عن مدها، وتوجه إليها بالقول: مصافحة النساء حرام. رغم أنه لم يتجاوز العاشرة من عمره.
من الجانب الآخر ماذا نرى؟
التقارير الحكومية والحقوقية تقول إن هؤلاء الأطفال يتم استقطابهم من جهات متعددة من البلاد، وبعضهم من المدن الكبرى، ليقيموا 11 شهرا متلاحقة في معسكر مغلق يفتقد إلى أبسط الظروف الصحية والنفسية والبيداغوجية.
ينام الأطفال الصغار مع المراهقين والشبان البالغين وبعض المؤطّرين المختلطين في أوضاع غير لائقة. وعند الفجر يستفيق الجميع لأداء الصلاة. ومن يتراخى يُجلد بعنف. ومن يصاب بمرض لا يؤخذ إلى الطبيب وإنما يعالج بالرقية الشرعية. والأكل يُقدّم إليهم بعد أن يكون قد تعفّن ليتعلموا مجاهدة النفس والصبر على المكاره واحتمال كل الظروف مهما قست. وبين الحين والآخر يتم أخذهم إلى المزارع أو حظائر البناء ليمارسوا الأعمال الشاقة التي تفوق قدرتهم على التحمّل.
التقارير ذاتها، قالت إن هؤلاء الأطفال مصابون بأمراض عدة، وبعضهم تعرّض للاغتصاب. والمصيبة تتخذ بعدا إضافيا، عندما نعرف أن هذا المعسكر ليس وحيدا، إنما هناك معسكرات أخرى في مناطق متعددة، تم بعثها وفق قانون الجمعيات، التي بلغ عددها أكثر من 23 ألف جمعية. جانب كبير من هذه الجمعيات يزعم العمل على استعادة الهوية العربية الإسلامية. ويصب في خدمة مشروع الإسلام السياسي. ويحصل على تمويلات مجزية من مؤسسات الزكاة والمنظمات الخيرية. ويهدف إلى تشكيل مجتمع مواز، وإلى إعداد نماذج “طالبانيّة” للاستحواذ على البلاد، عندما تحين الفرصة لذلك.
بالمقابل، فإن صاحب المدرسة المعسكر، يعيش في سكن راق بحمام سباحة، ويحتوى على أحدث التقنيات، وأبناؤه يدرسون في المدارس الحكومية، ورصيده في البنك يصل إلى أكثر من مليوني دينار تونسي، أي حوالي 700 ألف دولار أميركي، وله زوجة ثانية في بلد يمنع تعدد الزوجات.
يضاف إلى ذلك، أن هذا المعسكر تم بعثه منذ العام 2012 وساهم في تصدير مقاتلين للانضمام إلى حركة النصرة في سوريا.

انتشار التطرف في تونس مدعوما بثقافة الكراهية والحقد والتكفير
ورغم أن السلطات الحكومية أصدرت قرار إغلاق بحقه في مناسبات عدة، إلا أنه تجاهل القانون وأحكام القضاء، وعاد ليستأنف نشاطه، إلى أن تفطن إليه فريق استقصائي تلفزيوني قام أفراده باختراق تفاصيله بواسطة كاميرا سرية، ومن خلال الادعاء بأنهم جاؤوا لترسيم طفل في تلك المدرسة، تنفيذا لطلب والده المقيم في الخارج.
إن هذه الواقعة التي هزت المجتمع التونسي، وسيطرت على اهتمام الرأي العام، ووصلت إلى قبة البرلمان، ودفعت برئيس الحكومة إلى إقالة محافظ مدينة سيدي بوزيد، ليست سوى غيض من فيض ما يدور في المجتمع التونسي بعد ما سمي بثورة الياسمين.
انتشر التطرف مدعوما بثقافة الكراهية والحقد والتكفير المضمر والعدوانية التي يمكن لأي مراقب أن يستشفها في مختلف الأوساط، وفي أغلب المناطق، مع أصوات مرتفعة لنخب تدعم هذا المسار، ولا تخفي عداءها لأي نفس مدني أو حداثي أو ليبرالي أو علماني أو ديمقراطي.
وإذا كانت ظاهرة التشدد قد عرفت اتساعا بعد الإطاحة بالنظام السابق، ووجدت مساحة للتحرك في ظل حكم الترويكا بقيادة حركة النهضة، فإنها اختارت منذ العام 2014 أن تنكفئ على نفسها بعض الشيء، وأن تعمل دون ضوضاء على اختراق المجتمع أفقيا، وأن تستفيد من التقنيات الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام لتؤكد أنها لا تزال موجودة، بل ووصل الأمر إلى اختراق مؤسسات الدولة ولكن ضمن مخطط مدروس، ينطلق من مبدأ التمكن أولا، والاستعداد لإقامة الدولة الإسلامية المنشودة بأدوات ثقافية وعقائدية مستوردة.
المجتمع التونسي الذي نشأ على فكرة التميز التي زرعها فيه بورقيبة، وإن كان يختزن في ذاكرة تاريخه فصولا مهمة من الإصلاح الاجتماعي من أسبقية تحرير العبيد إلى أسبقية تحرير المرأة، إلا أن الحقيقة تشير إلى أن إصلاحاته كانت بمبادرات فردية من فاعلين سياسيين.
استفاد هؤلاء من مراحل تاريخية بعينها لتحقيق مشاريعهم، بمعنى أنها قرارات عمودية، لم تستطع أن تشكل وفاقا مجتمعيا حولها، وهو ما كشفت عنه الديمقراطية الوليدة التي تحوّلت إلى حالة فوضوية، خصوصا في ظل اتّساع ظاهرة الإسلام السياسي.
واستفادت جماعات الإسلام السياسي من حالة الأمية والفقر والبطالة في التشكيك في كل الإصلاحات السابقة، وعملت على تقسيم المجتمع على أسس سبق وأن شهدتها مجتمعات عدة بعد سقوط أنظمتها المركزية، وتراجع أداء دولها، وتكالب المتدخلين الخارجيين عليها، وانقسم الفاعلون السياسيون داخلها وفق أهوائهم ومصالحهم الحزبية والفئوية والشخصية.
وإذا كانت تونس قادرة على مواجهة أزماتها المالية والاقتصادية، فإن أزمتها الحقيقة اليوم تكمُن في السوس الذي ينخر عظامها، ويتمدد في جسدها، دون أن تجد العلاج المجدي الذي ينقذها من شراسته المتشكلة في تمظهرات عدة.
ليس معسكر الأطفال الذي تم الكشف عنه مؤخرا، إلا أحد تجلياتها البسيطة مقارنة ما تخفيه الأرض والجدران وتضمره النفوس.