سمير عطا الله يكتب:
مؤتمر وارسو
يعتبر مؤتمر وارسو أكبر تجمع دبلوماسي في العالم خلال السنوات الأخيرة. وإمّا أنه عالم متحيِّر حقاً، وإما أننا - أي أهل هذا العالم - شعوب حائرة وضائعة. فالرئيس الأميركي المتهم في بلاده بالتعاون مع الروس، يعقد هذا المؤتمر في قلب الحديقة الخلفية الروسية، متحدياً ومتجاوزاً جميع تحفظات موسكو. وفي الوقت نفسه، هو من ينسحب من سوريا، تاركاً للروس أن يقرروا فيها صيغة الاستراتيجيات وصورتها المقبلة في الشرق الأوسط.
يقول سفير بريطانيا السابق لدى لبنان، توم فليتشر، إنَّ ما يميِّز الدبلوماسية العالمية في هذا العصر، هو التأثير الذي تتركه الدول الأكثر ضعفاً، وليست الأكثر قوة. فإن قوة روسيا اليوم لا تقارن بقوة الاتحاد السوفياتي، الذي كان يضم خمسَ عشرة جمهورية. والولايات المتحدة التي لا تزال القوة الأكبر عسكرياً ومادياً، تندفع في مكانٍ وتتراجع في آخر. وأما أوروبا، تلك القارة الكبرى، فهي الآن في حالة شديدة من الضعف، تخاف على وحدتها من الوباء الإنجليزي المعروف باسم «بريكست».
تحاول إيران استغلال هذا الوضع القائم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. بدأت بمحاولة إثبات نفسها كقوة نووية، ثم راحت تتمدد في الشرق الأوسط من خلال القضية الفلسطينية وما تعنيه للعرب والمسلمين. وخطفت شعار القدس حتى من الفلسطينيين أنفسهم، بحيث بدا أنهم خلفها، لا أمامها. وكان أول ما ركزت عليه، ليس فقط تقسيم العرب؛ بل أيضاً تقسيم الفلسطينيين. ومنذ بدء القضية الفلسطينية لم يحدث أبداً أن تعرضت للشرخ الذي أحدثته طهران والدوحة في صفوفها. وقد أصبحت محادثات المصالحة بين «حماس» والسلطة مضجرة؛ بحيث لم يعد يتابعها أحد، من السنغال على خط الاستواء، إلى القاهرة في قلب الأمة، والفلسطينيون يقولون لنا إنهم يقتربون من المصالحة؛ لكن كلَّ خطوة إلى الأمام تقابلها خطوتان، واحدة من إيران وواحدة من قطر، ويعود كل شيء إلى التفكك.
يقول توم فليتشر إن هذا العصر هو عصر «عدم الثقة المتبادل». وهذا بالذات ما يزيد الغموض في العلاقات الروسية الأميركية. الفريقان يتقاتلان خلف أسوجة حدائقهما الخلفية. أميركا في وارسو، وسيرغي لافروف يحذر الأميركيين من التدخل عسكرياً في فنزويلا. وتكاد أزمة فنزويلا تتحول إلى مواجهة شبيهة بأزمة كوبا بين واشنطن وموسكو. وفي الوقت نفسه تخلي الاستراتيجية الأميركية مواقعها في سوريا وأفغانستان، اللتين كانتا نقطتي صراعٍ حيويٍّ، بل مصيري، بين الفريقين. وها هو الثلاثي الروسي - التركي - الإيراني يترك أميركا خارج الصياغات السورية؛ لكنه يزيد الضغط على الروس في جوارها، وخصوصاً في أوكرانيا.
شارك الأميركيون في حسم إحدى أواخر المعارك ضد «داعش» في سوريا؛ لكنهم في الوقت نفسه قرروا خفض وجودهم في العراق، ضمن خطة ترمب المعلنة بتخفيف الوجود العسكري في كل مكان خارج الأرض الأميركية.