الحبيب الأسود يكتب:

الشاهد والنهضة بين توافق الضرورة والاضطرار

التشنج السياسي أضحى سيد الموقف في تونس قبل ثمانية أشهر على الانتخابات الرئاسية والتشريعة القادمة.

حركة النهضة مثلا منقسمة على نفسها بين تيار داعم لاستمرار حكومة يوسف الشاهد حتى أواخر العام، وتيار آخر يرى أن من المفروض أن يتم حل الحكومة واستبدالها بحكومة تكنوقراط تضمن تنظيم الانتخابات في حياد تام، كما حدث مع حكومة الباجي قائد السبسي في العام 2011 وحكومة مهدي جمعة في عام 2014.

وعندما قال رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، إنه لا يستبعد تشكيل حكومة جديدة، وإن هناك مشاورات في هذا الشأن، فقد كان يوجه رسالة مضمونة الوصول إلى يوسف الشاهد، مضمون سطرها الأول أن لا استمرار لحكومته دون بقاء النهضة على موقفها منه، ولكنه موقف مشروط.

والشرط ظهر بعد ذلك من خلال اجتماع المكتب السياسي للحركة الذي أكد رفضه لأي استغلال لإمكانيات الدولة في أغراض حزبية، في إشارة واضحة إلى حزب “تحيا تونس” الذي تشكل مؤخرا من القوى المنشقة بالخصوص عن نداء تونس والداعمة لمشروع رئيس الحكومة، والذي يعوّل جانب كبير من قيادات النهضة على التحالف معه بعد الانتخابات، كبديل لحزب النداء الذي أنهى مهمته عند الحركة منذ أن وضع يده في يدها بعد انتخابات العام 2014، فأنهت وجوده، تقريبا، بخطة الاختراق الممنهج والدفع نحو الانتحار الذاتي الذي حوّله إلى حزب غير قادر حتى على لملمة ما بقي من صفوفه المتناثرة.

ولكن كيف تنظر النهضة إلى مشروع الشاهد؟

الواقع أنها تنظر إليه كأكبر تجمّع لمناوئيها، ووصلها بعض ما يدور في اجتماعات قيادات “تحيا تونس”، ومن ذلك مجاهرة البعض بالرغبة في العمل على إقصائها من المشهد بعد التفوق عليها في الانتخابات القادمة، تماما كما وصلت إلى الشاهد معطيات وافية عما دار في الاجتماع الأخير لمجلس شورى الحركة، والذي أثار جدلا واسعا باعتباره أول اختراق معلن لاجتماع الحزب العقائدي المعروف بالسرية المطلقة لما يدور في قاعاته المغلقة.

النهضة لديها أدلة على أن المشرفين على مشروع الشاهد السياسي، يستفيدون من الحكم لخدمة أهدافهم الانتخابية، وقد كان الرئيس قائد السبسي واضحا عندما قال في مقابلته الأخيرة مع جريدة “العرب” إن التونسيين يحبون من هو في السلطة وبالتالي يسعون إليه حتى وإن لم يسع إليهم، وهو ما تدركه النهضة كذلك، حتى أنها أصرّت منذ 2011 على أن تكون ممثلة في الحكم ولو بمستوى أقل بكثير من تمثيليتها البرلمانية، رغم أنها قادرة في حالات كثيرة على أن تستفيد من موقعها في المعارضة أكثر من موقعها في الحكومة.

الشاهد ذاته متأكد من الأمر، ويؤمن بأن وجوده على رأس الحكومة هو الضامن الوحيد الذي سيعطيه أملا في تحقيق نتائج إيجابية خلال الانتخابات، وأما في حالة الإطاحة به وبحكومته، فذلك سيعني انفضاض القوم من حوله، وعودة أغلبهم للبحث عن موعد أو لقاء مع حافظ قائد السبسي، وبالتالي الانضمام من جديد إلى نداء تونس على الأمل الترشح ضمن قوائمه للاستحقاق الانتخابي، وإطلاق حملة مناشدات للرئيس السبسي حتى يوافق على الترشح لعهدة رئاسية ثانية، انطلاقا من أن الأب المؤسس هو الوحيد القادر على مواجهة الشعب بما يتمتع به من كاريزما وقدرة على نيل التعاطف الجماهيري.

ولكن حتى تلك المواصفات لا تكفي، فالسبسي وحزبه فازا في رئاسيات وتشريعيات 2014 بالخطاب المناهض للإسلام السياسي ولحركة النهضة، قبل أن يدخلا معها في تحالف أدى إلى تصدع النداء وانخرام كيانه وتخلي ناخبيه عنه، فكانت فضيحة الانتخابات الجزئية في ألمانيا التي لم يحصل فيها مرشح نداء تونس حتى على مئة صوت، ثم التراجع الواضح في الانتخابات البلدية، على الرغم من أن الحكومة ورئيسها كانا، آنذاك، في الصفوف الأولى لحملته الدعائية الانتخابية.

فهل لدى الرئيس السبسي ما يفعله لاستعادة ثقة ناخبيه وخاصة المليون امرأة؟ بالتأكيد لن يستعيد الثقة بقانون المساواة في الإرث كما يعتقد البعض، وإنما فقط بمحاصرة حركة النهضة والكشف عن حقيقة التنظيم السري والاغتيالات وتسفير الشباب للقتال في بؤر التوتر وغيرها من الملفات المعروضة على مجلس الأمن القومي، لكن كل تلك الأوراق تفقد قيمتها عندما يستمر نداء تونس في أزمته، وعندما يواصل الشاهد مسيرته نحو الانتخابات وهو على رأس الحكومة، حتى وإن تأكد استغلال حزب “تحيا تونس” لإمكانات الدولة.

فجانب من قياديي حركة النهضة، وخاصة من المطلعين جيدا على خفايا الأمور، لا يريدون لنداء تونس أن ينهض من جديد، ولا للرئيس السبسي أن يدخل عهدة رئاسية ثانية، ويريدون بالمقابل أن يكون هناك منافس كبير يستظلون بظله في المرحلة القادمة، كما فعلوا مع غيره سابقا، أو يروضونه ليكون تابعا لمشروعهم، خصوصا عندما يلتقي هذا المنافس مع حركة النهضة في جملة من المعطيات المهمة وعلى رأسها الاقتصاد والإصلاحات الكبرى ومرجعيات التعامل مع العواصم الغربية.

لقد قدم يوسف الشاهد الكثير من المعلن والخفي لحركة النهضة، ولم يحاول المساس بها بأي شكل من الأشكال، وخاصة في ما يتعلق بملف التنظيم السري، وساهم تحالف كتلته البرلمانية مع كتلة حركة النهضة في تمرير العديد من القوانين والقرارات، لكن هذا لا يعني أن الملفات التي توجد لديه قد لا تتسرب في حالة الإطاحة به، بينما يبقى التحالف معه هو الذي يضمن طمسها نهائيا.

فالشاب الطموح لديه أهداف طويلة المدى، ولا يريد معاداة الإسلاميين حتى وإن أبدى المحيطون به عكس ذلك، كما أنه يدرك جيدا أن حركة النهضة تحاصره من كل الجوانب ولو بسياج غير واضح للعيان.

هل ستتخلى حركة النهضة عن يوسف الشاهد؟

الأمر يبدو صعبا ولكنها تناور لتأخذ منه المزيد من التنازلات، مثل استبعاد من تصفهم بالاستئصاليين من حركة “تحيا تونس”، وتمكينها من التحرك في راحة كاملة داخل كل مواقع نفوذها في السلطة، ومواصلة تحصينها من الاتهامات الموجهة لها وخاصة من المعارضة اليسارية، والاستمرار في التحالف معها داخل مجلس نواب الشعب، لتنفيذ ما يلائم أجنداتها.

لا شك أن يوسف الشاهد عرف كيف يدير اللعبة جيدا منذ أن تمرد على الرئيس السبسي وعلى نداء تونس، ورفض الخضوع لمحاولات التلاعب به، وأثبت أنه صاحب حلم كبير، وأن عقله يتمتع ببرمجة جيدة، ولكن النهضة كذلك تمتاز بقدرة فائقة على إدارة المباريات الساخنة بأعصاب باردة، وعلى الوصول إلى أهدافها بالكثير من البراغماتية.

والواضح أن كلا منهما يعرف جيدا ما يريده الطرف المقابل، والمؤكد أن هناك جولات من الصراع تنتظرهما، ولكن لا أحد منهما قادر على الاستغناء عن الآخر، على الأقل في الوقت الحالي، في انتظار ما تخفيه الأيام والمصالح والحسابات، ليس من مفاجآت الربيع، وإنما من نتائج الخريف والشتاء، عندما يتاح للشعب أن يتخذ قراره ويدلي بصوته في صناديق الاقتراع.