الحبيب الأسود يكتب:

عبير موسي وحزبها.. حنين لدولة الاستقلال دون تجزئة المراحل

الاجتماع الشعبي الحاشد الذي شهدته مدينة قصر هلال الساحلية التونسية بمناسبة ذكرى تأسيس الحزب الدستوري الجديد من قبل الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة ورفاقه في الثاني من مارس 1934، والذي أشرفت عليه زعيمة الحزب الدستوري الحر، عبير موسي، أكد من جديد أن هناك ظاهرة سياسية حقيقية بدأت في التبلور وسيكون لها أثرها البالغ في مستقبل البلاد، وهي ظاهرة هذا الحزب الذي بدأ في الانتشار بقوة في المجتمع التونسي، منطلقا من رؤية واضحة، وهي استمرار الانضواء تحت مظلة حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم ما قبل الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وتم حله بحكم قضائي اجتثاثي في مارس عام 2011، في ظل حالة التجييش الثوري التي عرفتها تونس آنذاك، كمخبر مفتوح لتجليات ما سمي بالربيع العربي.

التجمع الدستوري الديمقراطي الذي حكم في عهد زين العابدين بن علي، هو امتداد للحزب الدستوري الجديد الذي أسسه بورقيبة، ليقود من خلاله مرحلة المقاومة ضد الاستعمار ثم بناء الدولة الحديثة بعد الاستقلال، كما أن جذوره تعود إلى أول حزب سياسي تونسي تأسس عام 1920، وهو الحزب الدستوري القديم بزعامة عبدالعزيز الثعالبي.

وفي 23 مارس 1962 أعلن الحزب الحاكم تبنيه التجربة الاشتراكية وفي أكتوبر 1964 غيّر اسمه إلى الحزب الاشتراكي الدستوري وعُهدت مهمة تنفيذ البرنامج الاشتراكي إلى الوزير أحمد بن صالح قبل أن يطاح به وبمشروعه عام 1969، لكن الاسم بقي على حاله، وعندما وصل زين العابدين بن علي إلى الحكم في السابع من نوفمبر سنة 1987، تم في يوليو 1988 تغيير اسم الحزب الاشتراكي الدستوري، إلى التجمع الدستوري الديمقراطي، حيث حاول النظام السابق أن يجعل منه تجمّعا لمختلف التيارات المؤمنة بمشروعه، بما في ذلك قوى نقابية ويسارية وقومية، وهو ما دفع بالكثير من الانتهازيين إلى ركوب صهوة الحزب في صورته الجديدة للتقرب من السلطة وتحقيق المصالح.

وعند اندلاع الأحداث التي أطاحت بنظام بن علي في يناير 2011، كان الحزب في حالة ترهل على مستوى القيادة، بل يكاد يكون مخترقا من أطراف عدة داخلية وخارجية، لذلك لم يقم بأي دور فاعل في الدفاع عن النظام، ليكون أول ضحايا “المد الثوري” إذ تم استهدافه بقرار الاجتثاث من قبل أعدائه السياسيين عبر استعمال القضاء الذي كان في حالة ارتباك، وساهمت القوى اليسارية الراديكالية في الدفع إلى ذلك، لتضع خصومها من الإسلاميين على رأس السلطة والحراك السياسي خاصة بعد انتخابات أكتوبر 2011.

فحركة النهضة الإخوانية كانت، عندئذ، أقدم التنظيمات الحزبية وأكثرها انضباطا وأبرزها من حيث العلاقات الخارجية ضمن حراك إقليمي كان يتجه، بدعم غربي واضح وبتمويلات سخية، لتمكين الإسلاميين من الحكم من خلال مشروع عابر للحدود.

غير أن قضية حل التجمّع أظهرت شابة كانت في مقتبل العمر، وهي المحامية عبير موسي التي شغلت في آخر أيام الحزب المنحل منصب أمينة عامة مكلفة بشؤون المرأة، لتبرز كمدافعة شرسة عن التراث الدستوري بجانبيه البورقيبي والتجمعي، تعرضت للإيذاء الجسدي والنفسي، وواجهت بصلابة الملاحقات القضائية ومنعها من العمل في قطاع المحاماة لمدة عام والحرب الإعلامية الموجهة ضدها، قبل أن تتحرك في اتجاه ربط الجسور مع ناشطين آخرين لبعث الحركة الدستورية، بقيادة الوزير الأول الأسبق ونائب رئيس التجمع قبل حله، حامد القروي، الذي غادر الحركة في أغسطس 2016، ليتم تغيير اسمها إلى الحزب الدستوري الحر، بقيادة جديدة تتزعمها عبير موسي، عملت منذ ذلك التاريخ على تغيير الشعار والاستراتيجيا والهياكل، وأكدت أنها الامتداد الطبيعي والتاريخي لحزب بورقيبة وبن علي، فاستعادت تقريبا هيكلة التجمع التنظيمية، واتجهت إلى تكريس مفهوم الانضباط الحزبي لمنع أيّ محاولة للاختراق أو الاستهداف.

بعد الإطاحة بنظام بن علي، تنافست قوى عدة على وراثة الخزان الانتخابي والآلة الانتخابية للحزب المنحل، وبات البعض يتحدث عن الدستوريين ويخجل من صفة التجمعيين، وظهر من يتبنى البورقيبية ويقدم نفسه على أنه المؤتمن عليها.

من ذلك كمال مرجان الذي أسس حزب المبادرة في أبريل 2011، والباجي قائد السبسي الذي أسس حركة نداء تونس في يونيو 2012، وأكد أن هدفه هو إحداث التوازن السياسي من الإسلاميين ممثلين في حركة النهضة، ونجح في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 2014 بخزان التجمع المنحل، وبشعارات المناهضة القاطعة للإسلام السياسي، قبل أن يتبين إن كان متفقا مع راشد الغنوشي على تقاسم السلطة منذ لقاء باريس في أغسطس 2013، ما أدى لاحقا إلى فقدانه ثقة الجانب الأكبر من ناخبيه، ثم ظهرت أحزاب أخرى، منشقة عن بعضها، ترفع جميعها شعار استقطاب البورقيبيين والدستوريين والدفاع عن إرث بورقيبة، مع تنصل في العلن من التجمعيين وتودد لهم في السر.

لقد تشتت التجمعيون، أو الدستوريون والبورقيبيون كما يسميهم البعض، إلى متقربين من حركة النهضة بدعوى الاعتراف بالواقع والتفاعل مع المعطيات الجديدة على الساحة السياسية، وحالمين بالزعامة ومتاجرين بالهوية الحزبية السابقة، في حين كانت نسبة كبرى من القاعديين غير الراضين عما آل إليه الوضع، تراقب في صمت ومنها من كان يقاطع الاستحقاقات الانتخابية، إلى أن بدأ نجم عبير موسي في الظهور من خلال زعامتها للحزب الدستوري الحر.

ومن خلال صراحتها ووضوحها في إعلان الوقوف ضد الربيع العربي وإفرازاته، وضد الإسلام السياسي بمختلف تجلياته، وضد حلفائه في الداخل والخارج، وضد منظمات المجتمع المدني المرتبطة بالأجنبي، وضد التمويلات الخارجية، وضد كل من يتبنى فكر الزعيم الحبيب بورقيبة، أو كان منتميا للحزب الحاكم سابقا ودخل في تحالف أو تعايش مع تنظيم الإخوان، وبذلك خاطبت وجدان جانب مهم من التونسيين، ليس لأنهم يحنون لنظام بن علي فقط، ولكن لأنهم يحنون للدولة التونسية كما عرفوها أو كما سمعوا عنها. زهي دولة لا مجال فيها للصراعات الأيديولوجية والعقائدية ولخطاب التطرف والتشدد، وللتجاذبات الخارجية حولها، أو للتجاذبات الداخلية على علاقاتها الخارجية كما يحدث في الوضع الراهن.

وما ساعد عبير موسي في تمشيها فشل منظومة الحكم منذ العام 2011 وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية واتساع خطاب الحقد والكراهية والتكفير وترهل الدولة ومحاولات اختراقها والتغلغل في مفاصلها، وتحوّل تونس التي عُرفت على امتداد عقود كدولة هادئة مستقرة إلى بلد يطغى عليه التشنج والعدوانية، والصراع على السلطة والاستقواء بالخارج بعد تراجع السيادة الوطنية وانخرام استقلالية القرار الوطني.

وعندما يؤاخذ البعض عبير موسي على موقفها المتشدد من حركة النهضة، حتى أنها لا تناديها باسمها وإنما بصفة التنظيم الإخواني، فإنما يعطيها المزيد من الدعم القاعدي.

فحركة النهضة التي تقول إنها تحولت إلى حزب مدني، لا تزال تواجه انتقادات من داخلها، جاء بعضها على لسان القيادي لطفي زيتون، المعروف بأنه المستشار السياسي لراشد الغنوشي، والذي أكد أن الحركة لم تفصل بعد بين الديني والسياسي، وأنه، شخصيا، لم يقتنع بمقولة الإسلام الديمقراطي التي ما انفك راشد الغنوشي يروجها في الداخل كما في الخارج.

كل هذا وغيره، يجعل من الحزب الدستوري الحر يتقدم بسرعة وصفها المراقبون بالصاروخية، لأنه حزب وعد بالعمل على إعادة هيبة الدولة وسمّى الأشياء بمسمياتها، ولم يخجل من تاريخه ولم يتنصل من ماضيه، ولم يبحث عن وفاق مغشوش سواء مع الإسلاميين أو مع اليسار الراديكالي أو حتى مع من يحملون نفس مبادئه، قبل أن يؤطروها ويقولبوها وفق الخارطة السياسية التي جاءت بعد 2011