سمير عطا الله يكتب:

كآبة الحبر

كان أبي يريدُ أن ينهاني عن الدخول في هذه المهنة، التي لم تكن في رأيه سوى مهنة الصعاليك والفقر الأبدي. لم يكن يفعل ذلك بطريقة مباشرة، لكنه يتحدث كلما سنحت الفرصة عن مساكين الصحافة وحياتهم المضطربة والتشرد في المقاهي. ولطالما روى عن الصحافيين من أصدقائه، الذين يأتي آخر الشهر من دون أن يحلَّ معه موعد تقاضي رواتبهم. كنت أصغي إليه في تمردٍ داخلي؛ فإني لا أريد شيئاً آخر، ولا أُجيد شيئاً آخر، ولا أفكر في شيءٍ آخر.

وكنت أعتبرُ والدي متحيزاً؛ لأنه لا يشيرُ أبداً إلى الناجحين في هذه المهنة، واللّامعين فيها، ومن حسن الحظ أن المهنة تطورت وازدهرت، خلافاً لمخاوفه. والصعاليك الذين كان يقدمهم أمثلةً، أصبحوا خارج الإطار وتحملوا بؤس مرحلتهم.

تحولت الصحافة العربية في زمننا إلى صناعة ناجحة. وتمتع الصحافيون بنفوذٍ سياسي وحضور اجتماعي، يفوق أحياناً نفوذ السياسيين أنفسهم. وكان أكبرُ دليلٍ على ذلك، أنه ما أن يقلب انقلابي على الحكم في بلدٍ ما، حتى يتجه فوراً إلى إغلاق الصحف واستبدال نوع من النشرات الفارغة بها، ومع تطور الصحافة تطورت أوضاع الصحافيين، وتحسنّت مداخيلهم، ولم يعودوا محسوبين في طبقة المحتاجين أو المعوزين إلّا إذا أوقعهم سوء الطالع في قبضة ناشرٍ يعاني من خفة الضمير.

ورفعت صحفٌ مثل «النهار» مستوى الرواتب إلى أعلى بكثير من مستوى كبار الموظفين في الدولة. ثم ازداد الازدهار المهني مع صدور الصحف الكبرى في الخليج، التي ضمت عدداً كبيراً من صحافيي البلاد العربية، خصوصاً أولئك الذين تضرروا من عمليات التأميم والمصادرة في بلدانهم.

كم يحزنني أن أعود إلى كلمات والدي القاسية وأنا أرى اليوم الصحف تغلق أبوابها، وأرى عدداً كبيراً من الصحافيين، على اختلاف الدرجات والمواقع، في حالة من القلق والخوف. إن أكثريتهم الساحقة من أعمارٍ لا تسمح لهم بالبحث عن مهنة جديدة. ولا الأوضاع الاقتصادية السائدة حالياً في البلدان العربية، تمنحهم أي نوع من الفرص. عام 1621 أصدر روبرت بورتن تحفة أدبية لا تزالُ الأكثر مبيعاً حتى الآن عنوانها «تشريح الحزن». ويقسّم الحزن إلى قسمين، الدائم والعابر. العابر يأتي ويذهب لأسبابٍ متحركة كالحاجة والمرض والخوف والحزن والشغف واضطراب المزاج والتذمر والوحدة والملل.

وكلُّ هذه مسائل يمرّ بها جميع الناس في جميع المراحل، غير أنها تجد نهايتها قريباً أو بعيداً. الحزن غير العابر هو اليأس، وأخشى أن هذا ما تدخل فيه الصحافة العربية هذه الأيام. وإنني إذ أحمد الله على ما أنا فيه، لا أستطيعُ أن أتمالك نفسي من كلّ هذه الكآبة بسبب ما يمرُ به الكثير من الرفاق.