الحبيب الأسود يكتب:

الدكتاتورية تستحي.. ولا حياء للديمقراطية

مأساة الرضع المعلن عن وفاتهم في أحد مستشفيات تونس الحكومية، تؤكد مدى الوضع المتردي الذي تعاني منه أغلب القطاعات الخدمية في البلاد، ومن بينها  قطاع الصحة العامة المنهك، والمصاب بكثير من الأدواء التي لم تجد من يوفر لها العلاج المجدي في ظل انهيارات غير مسبوقة ليس فقط لمؤسسات الدولة، وإنما كذلك لقيم المجتمع المكبّل بالإحباط، والخاضع منذ سنوات لنزعة الأنانية الفردية ولغياب روح العمل والانضباط، مع اتساع رقعة الصراع على السلطة، والتجاذبات السياسية من قبل نخب أثبتت فشلها في إدارة الشأن العام وفي تشخيص السلبيات التي يعاني منها.

وإذا كانت قضية الرضع قد أثارت صدمة في المجتمع، نظرا لطبيعة الضحايا ولحجم الكارثة، فإن قضايا الموت المجاني في المستشفيات التونسية باتت أمرا عاديا، وهناك قصص كثيرة عن أشخاص دخلوا إلى قاعات العلاج وهم يضحكون، وخرجوا على حمّالات الموتى، فقط بسبب أخطاء في التشخيص، أو تسرب جرثومة في آلة أو مادة غير معقمة، أو نتيجة إهمال غير متعمد بمنطق القانون، وعادة ما تطوى الملفات، أو توضع في الأدراج قبل أن تفتح، نظرا لأن الضحايا في الغالب من الفقراء والبسطاء ممن لا حول لهم ولا قوة.

وأزمة الصحة، لا تختلف عن أزمات خدمية أخرى في التعليم والنقل والرعاية الاجتماعية وغيرها، في دولة تعاني من أعراض الشيخوخة المبكرة، حيث يكاد يتساقط منها عضو في كل يوم جديد. دولة فقدت القدرة على التحكم في عصبها الرئيس، وهو الحكم الممزق وفق نظام سياسي هجين تم إقراره في دستور 2014 لتتوزع السلطة بين الحكومة والبرلمان ورئاسة الجمهورية، كما يتوزع الدم بين القبائل، ولتدار شؤون البلاد وفق حسابات الأحزاب المخترقة ومصالح اللوبيات المتوحشة التي تغلغلت في مختلف القطاعات، لتعيش البلاد على وقع فساد غير مسبوق، للسياسيين دور مهم إن لم يكن رئيسيا فيه.

إن أخطر ما تواجهه تونس حاليا هو حالة اللامبالاة العامّة من قبل مجتمع ينظر بعين منكسرة إلى الفاعلين السياسيين وهم يتصارعون على حكمه، ويستعمل كل منهم نفوذه للسيطرة، ويستنفر أدواته سواء كانت خطابا ثوريا أو دينيا أو هوياتيا إخوانيا أو سلفيا أو قوميا أو بورقيبيا، أو شعارات ديمقراطية أو ادعاءات بالدفاع عن الطبقات الكادحة، أو عن حق المرأة الكاملة في المساواة مع الرجل أو غيرها، في حين تنهار المؤسسات من الداخل، وتتجه البلاد إلى حافّة الإفلاس بتراجع الإنتاج، وارتفاع مستويات المديونية والتضخم وغلاء الأسعار، وتوجيه كل ما حصلت عليه من منح وقروض إلى الاستهلاك، لتنبعث طبقة من الحيتان والقطط السمان، مقابل تراجع الطبقة الوسطى، واتساع رقعة الفقر والبطالة، والانهيار شبه الكامل لمفهوم العمل، وتسرب ثقافة الكراهية داخل المجتمع بواسطة خطاب ديني متشنج، يعمل ناشروه على وضع اليد على البلاد ولو كانت خرابا.

إن مأساة الرضع ضحايا الإهمال داخل مستشفى حكومي، قد تكون المطرقة التي ضربت بقوة على رأس المجتمع المنكسر من داخله، ولكنها ليست سوى حلقة من مسلسل التردي الذي تعاني منه تونس منذ 2011، حيث تقدم الفاشلون إلى منصة الحكم بدعوى أنهم كانوا يواجهون الإقصاء في عهد الدكتاتورية، وجاؤوا بأتباعهم وحوارييهم، وقسّموا الدولة وفق مناطق نفوذ، وتغلغلوا في المؤسسات، وأعطوا مثلا سيئا بدأ ينعكس على كل القطاعات، ليتبين عجزهم على إدارة الدولة، لكن لا أحد مستعدا للتخلي عن مصالحه ومصالح المقربين منه، وسيستمر الوضع على ما هو عليه، حيث لا ضوء يلمع في آخر النفق.

إن ما سمي بالتحول الديمقراطي في تونس، لم يحقق إلا التوسع في الفساد، وإذا كانت الدكتاتورية تستحي من الشعب، وتخاف على نفسها من غضبته، فإن الديمقراطية بشكلها الحالي لا تستحي، ولا تهتم إلا بمغازلة أصوات الناخبين مع اقتراب كل موعد انتخابي، وعندما يتم الحديث عن الديمقراطية في بلد محدود الموارد كتونس، وبالثقافة المتوارثة فيه، علينا أن نسلّم أولا بضرورة أن يكتفي أصحاب القرار أولا، وأن تتقاسم النخبة السياسية الجديدة الغنيمة، بما يكرس دورها السياسي وحظوتها الاجتماعية على حساب الأغلبية الساحقة من الشعب.

في سبتمبر 2018 قال رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بتونس شوقي الطبيب، إن الديمقراطية التونسية تعيش اليوم تهديدا حقيقيا، وإن هذا التهديد ليس بالضرورة بوليسيا بل هو تهديد حكم مافيات نفوذ المال والفساد، وهذا التصريح، رغم صرامته، قد يكون مهادنا بعض الشيء ومحمولا عليه التحفظ نظرا لأن الفساد بات جزءا من منظومة الحكم والمظهر الأساس للديمقراطية المستحدثة، ويمكن تفسيره بما يدور في الأحزاب والبرلمان والمنظمات والإعلام وغيره، حيث كلّ يلهث وراء مصلحته، ولا من يفكّر في مصلحة البلاد، ما أدى إلى انتشار ظاهرة الأنانية الفردية والتواكل وغياب الإحساس بالمسؤولية وترهل الوازع الوطني وغياب روح الانضباط والجدية وتعدد واختلاف القراءات والمفاهيم لمعنى الدولة والسيادة الوطنية والانتماء والوظيفة والأمن والواجب، وحتى للإرهاب والتطرف والكراهية، وصولا إلى معنى أن تكون تونسيا.

وبينما لا تزال البلاد تواجه نزيفا حادا من هجرة الأدمغة والكفاءات، وبينما يحلم أغلب التونسيين بالحصول على منفذ للمغادرة نحو أي بلد خليجي أو أوروبي، وفي الوقت الذي يعزف فيه أغلب الشباب عن العمل السياسي، وبينما بات جانب مهمّ من التونسيين يبحث عن الكسب السهل، باتت مؤسسات  الدولة تعاني عجزا واضحا في القيام بدورها، بينما يئن المجتمع في صمت يخشى الكثيرون أن يتحول في لحظة ما إلى بركان هادر في مواجهة نخبه السياسية الفاشلة، والهازئة من قدرته على الفهم والاستيعاب.

“إن الديمقراطية هي أسوأ أشكال الحكم باستثناء كل الأشكال الأخرى التي تمّت تجربتها”، تلك الكلمات قالها وينستون تشرشل بعد أن صوت الشعب البريطاني لصالح إخراجه من منصبه كرئيس للوزراء في غضون أشهر بعد الفوز بالحرب العالمية الثانية. ويقولها تونسيون ناقدون لما يدور في بلادهم، غير أن الحقائق على الأرض تثبت أن الديمقراطية الغربية  ليست دائما شرطا للتقدم والرفاه، كما أن الدكتاتورية ليست دائما سببا للتخلف والمعاناة الاجتماعية، وإنما الأمر مرتبط بالنخبة الحاكمة فقد تكون دكتاتورية تستحي لأنها تعرف حساسية طبيعة وضعها المفروض على المجتمع، وقد تكون ديمقراطية لا تستحي لكونها تتمترس وراء حسابات التصويت الانتخابي والتزكية البرلمانية، وقد يكون حكم الفرد وطنيا حانيا على شعبه وبلده بمنطق الأبوة، بينما قد يكون النظام الديمقراطي فاسدا وعاجزا، وتابعا ذليلا للوبيات التي تخدم مصالح قادته وفاعليه في الداخل والخارج.