سمير عطا الله يكتب:

الجدران المفزعة

كان كبير مؤرخي أميركا آرثر شليشنغر يقول إن تاريخ العالم في معظمه كان تاريخ التمازج والاختلاط بين الشعوب. وقد زاد تطوّر الاتصالات ووسائل النقل من الهجرات الجماعية الكبرى، من بلد إلى آخر ومن قارة إلى أخرى. وأكثر ما يطبع هذا العصر هو طابع التنوّع الإثني والعرقي. وإذ تجتمع كل هذه التعدّديات تحت سيادة واحدة، تتحوّل أحياناً إلى متفجّرات كامنة. والإثنيات هي التي تهدّد الأمم في كل مكان. كان انفجارها الأكبر في الاتحاد السوفياتي الذي تفكّك، وفي يوغوسلافيا التي تحّولت إلى عدة دول. ولا يزال التوتر الإثني يهدّد دولاً مثل الهند وإثيوبيا وسريلانكا وبورما وإندونيسيا والعراق وقبرص ونيجيريا وأنغولا وغويّانا وترينيداد. بل إن دولاً مستقرّة ومتحضّرة مثل بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وإسبانيا، تساورها مخاوف إثنية كثيرة.
كانت الولايات المتحدة تُعتبر أكبر مصهر للأعراق والإثنيات في العالم: خليط من الإنجليز والاسكوتلنديين والآيرلنديين والفرنسيين والألمان والهولنديين والسويديين والإيطاليين والعرب وسواهم. بيد أن هذا المصهر البشري أصبح مهدّداً عندما طغى عليه العنصر اللاتيني. وهذا ما يثيره دونالد ترمب للمرة الأولى، ويجعله يصرّ على بناء حاجز إسمنتي لا سابق له على الحدود مع المكسيك. وللمرة الأولى ربما في التاريخ، تتغيّر الهوية الأوروبية أيضاً، فقد أصبحت أعداد المهاجرين تعطي لوناً، أو ألواناً أخرى، لعواصم مثل استوكهولم وبرلين. ما زلت أذكر أنني ذهبت إلى مدينة كولونيا الألمانية في الستينات وكان انطباعي أنها معرض خالص للعرق الألماني، أو الجرماني. وعندما ذهبت إليها مرة أخرى في الثمانينات، كان انطباع الوهلة الأولى، أنها مدينة تركية مليئة بسياخ الشاورما التي تدور حول النار في واجهات كثيرة.
لم يغيّر فوج باراك أوباما في اللاتوازن العنصري الذي طالما شكت منه الولايات المتحدة والمجتمع الأميركي. ولم يتردّد خلفه المتشدّد في العرق الأبيض، في الإشارة إلى لون أوباما وجذوره الدينية. بل إن عدداً من المحلّلين يعتبر أن الاقتراع لترمب كان رد فعل على فوز رئيس أفريقي الأصول بالرئاسة من قبل. تخاف النخب الأميركية من أن مسألة جدار المكسيك سوف يثير الغرائز النائمة التي كشفت عن وجه بشع في الخمسينات والستينات. وأنه قد يعيد إلى البلاد ثقافة الأكثرية والأقلية، وأولوية العرق الأبيض على سائر العروق الأخرى. ويتزامن هذا الشعور مع موجة اليمين الفاشي التي تكتسح القارّة الأوروبية كردّ فعل على حجم الهجرات الأخيرة إليها من أفريقيا والشرق الأوسط.
كانت مارغريت ثاتشر تقول بإعجاب إن الولايات المتحدة توصّلت إلى إنشاء «إنسان جديد» لكثرة ما ضمّت من جذور. وأخشى أن مسألة الجدران الإسمنتية والنفسية الجديدة قد تعيد هذا «الإنسان الجديد» إلى نزعاته القديمة