عبدالوهاب بدرخان يكتب:

العنف ضد المهاجرين.. واقع غربي

ليست هناك بداية محدّدة للظاهرة التي سمّيت لاحقاً «الإرهاب الجهادي» أو «الإسلامي»، فهي رُبطت عموماً بالغزو السوفييتي لأفغانستان والتداعيات التي رافقت نهايته وما بعدها، ولذلك فهي تُعتبر حديثة العهد، بما رافقها وما تسبّبت به من مآسٍ وتغييرات جسيمة. لكن صدمة مجزرة المسجدّين في نيوزيلندا دفعت مؤرّخين وباحثين اجتماعيين وكتاباً سياسيين إلى فتح ملف «الإرهاب اليميني المتطرّف»، ولم يسمّوه بعد «الإرهاب المسيحي»، تماماً كما يأبّى نظراؤهم في العالم الإسلامي إضفاء صفة الإرهاب الذي انسلّ انسلالاً إلى بلدانهم وبعض شرائح مجتمعاتهم. لهذا الإرهاب تاريخ وسوابق وإنْ لم يكن في بداياته مستهدفاً المسلمين، بل كان من أدوات صراع السياسات والطبقات والمصالح في بلدان الغرب، لكن تكاثرت المؤشّرات في العقدَين الأخيرين إلى استيقاظه من سبات العولمة والطفرات الاقتصادية ليشكّل حركة احتجاج محمومة ضد سياسات الحكومات المتهمة بأن انفتاحيّتها جلبت الغرباء ليشكّلوا عبئاً اقتصادياً وعنصراً ثقافياً طارئاً من شأنه أن ينسف الهويّة الوطنية.

في الولايات المتحدة شكّل وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض استقطاباً واستنهاضاً للمريدين من ذوي الانتماءات الدينية المتزمّتة، إذ كان واضحاً بالنسبة إليهم أن خطابه الشعبوي المكشوف ربط مكافحة الإرهاب بالتشدّد في استبعاد المهاجرين المسلمين، وكما امتنع في 2017 عن إدانة القوميين البيض الذين تسبّبوا بمواجهة أهلية مع السود في أحداث شارلوتسفيل، كذلك تجاهل أخيراً أن ضحايا مجزرة المسجدَين كانوا من المسلمين. في بريطانيا وألمانيا بذلت السلطات ولا تزال جهداً لمنع التظاهرات المتزامنة لجماعات إسلامية وأحزاب يمينية متطرفة، تجنّباً لأي صدام تصعب السيطرة عليه. في فرنسا قلق من ازدياد الاعتداءات وجرائم الكراهية. وفي إيطاليا أصبحت أحزاب «اليمين المتطرّف» في الحكم، وتتعزّز شعبيتها في بلدان أوروبية عدّة.. إذاً فالظاهرة تميل أكثر فأكثر إلى أن تصبح عامةً، وكلّما اعتملت في المجتمع كلّما اضطرّ الوسط السياسي لأن يأخذها في اعتباره. الحاجز الوحيد القائم أمام المتطرّفين يتمثّل بأن الدول قوية وبكونها دول قانون لا تسمح للعنف بأن يقوّض الأمن والاستقرار.

مع ذلك فإن الانطباع الذي خلّفته المجزرة أنها قد لا تكون الأخيرة طالما أنها ليست الأولى، وأن الجرائم قد تتعدّد بوتائر أكثر سرعة. يقول الأسترالي «برينتون تارانت، منفّذ المقتلة في نيوزيلندا، إنه استلهم النروجي أندرس بيهرينغ بريفيك مرتكب مجزرة اوتويا (2011) التي قضى فيها سبعة وسبعون شاباً في معسكر صيفي. كلاهما كتب عن «غزو» و«غزاة» لبلديهما وللغرب عموماً، وكان لافتاً أن“بريفيك“برّر جريمته بدفاع عاطفي عن إسرائيل وذُكر أنه كان يستهدف رئيسة الوزراء معتقداً أنها تستضيف تجمعاً لفلسطينيين. غير أن وقائع المسجدَين أظهرت أن“تارانت“استلهم الإسرائيلي باروخ جولدشتاين حين اقتحم الحرم الإبراهيمي في الخليل ليقتل مصلّين مسلمين (1994).

في أي حال، يظهر «المانيفستو» الذي نشره“تارانت“أن خلفيته السياسية أكثر عمّقاً في شرح «قضيته» بمنحى أيديولوجي، إذ يقول «أنا رجل أبيض من الطبقة العاملة لكنني قرّرت أن اتخذ موقفاً لضمان مستقبل شعبي». وحين أبرز شعار «البديل العظيم» لشرح دوافعه أشار إلى «التزايد الكبير لعدد المهاجرين»، «المحتلّين» و«الغزاة»، واتضح أنه تأثر بعدد من الكتّاب الفرنسيين، ولا سيما“رونو كامو“صاحب نظرية «الاستبدال الكبير» الذي دانته محكمة باريسية على تصريحات أدلى بها عام 2010 بالتحريض على الكراهية أو العنف، إذ صوّر المسلمين كـ«محاربين غزاة هدفهم الوحيد تدمير الشعب الفرنسي وحضارته واستبدالهما بالإسلام». ومما قال“تارانت“إن «أرضنا لن تكون يوماً للمهاجرين، وهذا الوطن الذي كان للرجال البيض سيظلّ كذلك ولن يستطيعوا يوماً استبدال شعبنا».

لا شك أن هذا التوجّه نحو التعبير المتطرّف، العنفي والإرهابي، يبقى هامشياً، مثلما قال العرب والمسلمون إن إرهاب «القاعدة» و«داعش» لا يمثلهم وإنه ليس من دينهم، بل «لا دين له» وهي العبارة التي تردّدت في الأيام الأخيرة في الغرب، بعدما ساد بعض التردّد في تصنيف المجزرة، إذ شعر كثيرون بأن «الداعشي» الذي مقتوه في أشرطته الوحشية قاطعاً للأعناق أو مشعلاً النار في ضحايا الأحياء لا يختلف في شيء عن «الداعشي» الخارج من صفوفهم ويعتقد أن إرهابه مقبول لمجرد أنه «أبيض». أصبح“تارانت“ وراء القضبان، والمؤكّد أنه ليس حالاً معزولة وأن جريمته حرّكت مياهاً راكدة في مجتمعه غير المعادي عموماً للمهاجرين، وربما أسست لواقع جديد في الغرب. فالذين يشاطرونه أفكاره سيطالبون باهتمام أكبر بهواجسهم لئلا تتكرّر المجزرة.

الاتحاد