سمير عطا الله يكتب:

وسادة نيوزيلندا

كلما وقعت مسفحة من هذا النوع، تحضر إلى الذاكرة روايات دوستويفسكي حول النفس البشرية الرهيبة: من هو المجرم الحقيقي: المحرض أم المنفذ؟ يقول في «الإخوة كارامازوف»: «لا يمكن لأي حيوان أن يجيد القساوة ويتفنن بها مثل الإنسان».
تفنن السفاح الأسترالي في رسم جريمته، وإعدادها وتنفيذها، كما لو أنه يعمل على لوحة للمتاحف. ووضع «كراساً» حول دوافعه وكأنه يضع مطالعة فكرية كبرى. هكذا كان «راسكولينكوف»؛ بطل «الجريمة والعقاب»، يعتقد أنه يقوم بعمل إنساني جليل، وفي الوقت نفسه يريد أن يثبت أنه يقوم بعمل يعجز عنه سواه. قبل أن يُقدم «راسكولينكوف» على جريمته، كتب مقالاً في إحدى المجلات حول أعمال القتل التي لا بد من أن تُرتكب في سبيل الإنسانية... المجرم يعد التبرير سلفاً.
يتوازى الإجرام مع التفاهة والسخف. السفاح الأسترالي كلف نفسه مهمة كبرى لصالح البشرية. ولن تكون هذه مقتلة عادية، بل فيلماً سينمائياً بالألوان وبكل ما توفره تقنيات الزمان: من الرشاش إلى النقل المباشر. ولشدة ما هو تافه وسقيم لم يخترع شيئاً: نسخ ألوان «داعش» وجاء بها إلى المدينة. يكتشف السفاح بعد جريمته أنه مجرد وحش عادي ولا جديد في المسألة.
الجديد الوحيد هنا أن المجرم الصغير استطاع أن يقلب حياة دولة برمّتها. لن تنام نيوزيلندا بعد اليوم على الوسادة نفسها، وسوف تراودها كل ليلة أحلام ترى فيها نفسها مَعرضاً للجثث البريئة والأطفال. ولن تغيب عن بالها بعد الآن صورة رئيسة وزرائها بثياب الحداد، تخاطب الأمة وتقدم العزاء لأهل الذين قتلوا وهم يصلّون.
جريمة تافهة، لا أكثر، ويكفي أن تقرأ «مطالعته». لكن لم يكن يخيل لنيوزيلندا أنها تحتضن هذا النوع من المخلوقات. وهي فعلاً كذلك. فقد جاءها من الخارج، كما هي الموضة اليوم، أو مثل أفلام الـ«كاوبوي» القديمة، حيث ينزل خارج على القانون على قرية هانئة ويحول سكينتها إلى كابوس.
يدب القلق في الجميع... يخافون على أبنائهم... يخافون على سمعتهم... يخافون أن يستدل المجرمون الآخرون على قريتهم، وأن تتحول إلى ساحة صراع فيما بينهم. لقد أصبحت على خريطة الخوف، وسوف تبقى. أسوأ شيء في الوحشية تفاهتها، والتنظير لها. فمن أجل أن تبرر تفاهتها، يجب أن تصورها على أنها عمل عظيم، ولها أهداف كبرى ومعانٍ كثيرة... لكنه في نهاية الأمر مجرم تافه، سواء كان اسمه راسكولينكوف أو تارانت!