سمير عطا الله يكتب:
مفكّرة القرية
تساءلنا هذا الشتاء لماذا كان طويلاً إلى هذا الحد وكان مطره غزيراً إلى هذه الدرجة. وهذا النوع من الأسئلة، لا جواب له بالطبع عند الإنسان، فما هو في هذا الكون إلا مخلوق صغير في سُنة الخلق. تحاول الأرض أن تعطيك لمحة عن أسرارها. فقد بدا أن الأقحوان الأبيض الذي ملأ الأرض هنا مثل بساط من الثلج الجاف، هو ابن تلك الأمطار والغيوم الكادحة. من البرد يتأتّى الدفء، وبعد العبوس الطويل، تشرق الشمس مكتملة مثل بدر نهاري، وفي هذا البساط الساحق تعوّدتُ أن أبحث دوماً عن البنفسج الرائع الألوان، الذي يختبئ دائماً بين طغمة الزهور الأخرى. لقد تعوّدنا منذ الطفولة أن نحبّه بفضل تواضعه. فلم يعلُ مرّة أو يتعالى، بل ترك للزهر الآخر أن يشرئبّ ويتشاوف، ولو عن حق.
بحثت عنه، في كنف الأقحوان وشقائق النعمان. ولم يصل الربيع إلى أعالي الشجر فإنها لم تزهر حتى الآن، وشجر اللوز لا يزال ينتظر المزيد من ظهور الشمس لكي يلوّن الأعالي بلون البنفسج الهادئ. لقد غنّى له الشعراء من كل لغة وفي كل ربيع من شكسبير إلى صالح عبد الحي. الأول قال: «أما رأيت البنفسج كيف تنمو، وكيف تنهض متى حرّكها شباب الطبيعة، إنها تترعرع وشيكة، وإنما سريعة الزوال، ثم إنها تتضوّع عبيراً، وتجمل حلية، ولكنها لا تمكث في الأرض، وما العبير الفوّاح والكلمات الغزلية سوى دقيقة وتنقضي». وأما صالح عبد الحي، الشيخ المغنّي، فما من أحد خاطب البنفسج بلغته كما فعل هو عندما قال: «ليه يا بنفسج بتِبهِج وانت زهر حزين - والعين تتابعك وطبعك محتشم ورزين - ملفوف وزاهي يا ساهي لم تبُح للعين - بكلمة منّك كَإنك سرّ بين اتنين».
اخترع الإنسان المدينة من أجل أن يعيش، واستبقى القرية من أجل أن يحيا. الأولى تأخذ منه الهدوء، والثانية تعطيه مفاتيح السكينة. أو هكذا نعِد أنفسنا، في جميع أنحاء العالم. منّا من ينشد هذه السكينة في البرّ، ومنّا من ينشدها في الثلوج، ومنّا من يبحث عنها في البحر، ومنّا من يعثر عليها في أرض الأجداد، الذين لم يعرفوا سواها. حتى المدن في أزمانهم كانت صغيرة هي أيضاً. وكان اسمها القرى، بمعنى الكِبر، وليس بمعنى الصِّغر، كما أصبحنا نعرفه الآن. فمكة المكرمة سمّيت أمّ القرى، فيما هي من مراكز الحركة الكبرى في الجزيرة العربية، ومرفأ للتجارة والمبادلات.
تبدو الساعات سريعة وقصيرة في القرية. وقد طالت النهارات الآن والحمد للّه، مع وصول الربيع، لا تقصّر منها إلا ضرورة العودة إلى المدينة، حيث لم يعد مكان للورد إلا في المزهريّات.