سمير عطا الله يكتب:

... وحكاية سيدتين

منذ اللحظة الأولى لمجزرة المَسجدين ظهرت في نيوزيلندا بطلة في حجم المأساة. في وقت واحد عرفت جاسيندا أرديرن كيف تتعامل مع السفاح، ومع ضحاياه. هو، الوحش الرقمي المخطِّط لأوسع عرض ممكن، منعت نشر صورته في أي مكان، أو نشر كلامه، ومنعت عنه أي صحيفة أو تلفزيون أو أي وسيلة تمتِّعه بأصداء ما فعل.
أرادت سيدة الأربعين عاماً، وأصغر حاكمة في البلاد، أن تقول للعالم أجمع، وخصوصاً للعالم الإسلامي، إن السفاح ليس نيوزيلندا، وإن نيوزيلندا هي تلك التي رفعت الأذان في أنحاء الدولة في مرور أسبوع على المجزرة، والتي تلت القرآن في البرلمان، والحاكمة التي لبست ثوب الحداد ولم تخلعه بعد. فكما أن في هذا العالم سفاحين وقتلة وإلغائيين، هناك أيضاً بشر من فئة الإنسان. ومن هؤلاء صدرت في ذكرى الأسبوع صحيفة المدينة وعلى صفحتها الأولى كلمة واحدة بالعربية: سلام!
بعيدة على حافة الأرض، كانت نيوزيلندا مسرحاً لأمثولتين: الهمجية التي يمثلها همجيو الأرض، والإنسانية التي جسدتها أرديرن. لم يكن مفر من تذكر السيدة الأخرى، أنجيلا ميركل، التي دعا السفاح في «بيانه» إلى قتلها. إنها الحاكمة التي فتحت أبواب ألمانيا أمام مليون نازح سوري، عدد يكفي لتغيير معالم برلين وغيرها.
وقد عاد عشرات الآلاف من هؤلاء إلى بلدهم، رغم كل ما أحيطوا به من عناية، مفضلين حياة الشقاء والخوف على حياة الغربة الكليّة التي دُفعوا إليها. ليس أهل البلد كلهم ملائكة، ولا المهاجرون. ففي اليوم التالي لمجزرة المسجدين، أقدم مهاجر تركي في هولندا على مجزرة صغيرة. أيضاً كان هؤلاء أناساً لا يعرفهم ولم يرَ وجوههم من قبل. ليس فقط أن الإرهاب لا دين له، كما قال عمران خان، بل أيضاً لا قلب له. إنما له عيون مثل عيون الوحوش الخرافية. فالسفاح كان يرى ضحاياه يتساقطون ثم يطلق النار من جديد، للتأكد من وفاتهم. ومن أربعة مساجد في المدينة، توافر له الوقت لمهاجمة اثنين متقاربين.
قادت جاسيندا أرديرن شعبها إلى الإسراع في محو اللطخة التي لحقت بالبلاد. ويوم كانت تعمل مستشارة في إدارة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، كانت أكثر من عارض وقوفه إلى جانب جورج دبليو بوش في احتلال العراق. لا تحتاج المواقف الإنسانية إلى خبرة، بل إلى شجاعة.
حاكمة دولة صغيرة على حافة الأرض، وزعيمة ألمانيا الموحدة القادمة من عزلة ألمانيا الشرقية، قدمتا لعالمنا المفكك درساً في الشجاعة الأخلاقية.