محمد فؤاد الكيلاني يكتب لـ(اليوم الثامن):
أمي … حبيبة القلب و الروح !
الحاجّة آمنة النجيب ، أو الحاجّة أم عاطف .. هكذا كانوا ينادونها ، ولكنها ، وكما أسرّت لي مرّة ، كانت أذنها تلذ لسماع أخويها ( محمد النجيب ومحمود النجيب ) يناديانها بإسمها المجرّد : آمنة … فقط آمنة .
أكتب لها وعنها اليوم ، ليس فقط لأننا نعيش احتفالات البشرية بعيد الأم، بل لألف سبب آخر ، أهمّها ، أني لم أكتب لها أو عنها شيئا في أيّ وقت ، مما أشعرني بنوع من تأنيب الضمير، فمن باب الوفاء أكتب لها وعنها.
الوالدة رحمها الله، تنتمي إلى نفس عائلة ( عشيرة ) الوالد ، عشيرة ( زيد الكيلاني )، تلك العشيرة الكبيرة التي انحدرت من صلب الحسن بن عليّ بن أبي طالب ، ومما جعلها بالتالي عشيرة مميّزة دينيّا واجتماعيا حيثما تواجدت ، وخصوصا في مدينة يعبد الفلسطينية وجوارها.
ولدت الوالدة عام 1922 م لأب من أغنياء ومترفي يعبد والمنطقة ( نجيب الحاج محمد زيد الكيلاني ) في ذلك الزمن، وكان والدها أحد وجهاء فلسطين ممن يشار إليهم بالبنان كونه أحد روّاد الإصلاح في كل فلسطين ، وكان يعتبر من الزعامات الوطنية المحلّية في شمال فلسطين على الأقل .
وكونها ابنة لرجل يعدّ من أغنى أهل منطقته ، فقد استطاعت تعلّم القراءة والكتابة والحساب ، بل ومعلومات متفرقة عن الجغرافيا والتاريخ واللغتين الإنكليزية والفرنسية، وذلك بعد أن أحضر لها والدها ( معلّمة خصوصيّة ) من إحدى المدن الفلسطينية ، وأذكر تماما الآن، كيف أنها هي بالذات من كانت تهجّيء لي الكلمات وتعلّمني مباديء القراءة تشرف على مذاكرتي لدروسي وحفظ جدول الضرب ، وكل ذلك كان ما قبل مرحلة دخولي المدرسة النظامية ، مما جعل مدير المدرسة ( يفرزني ) إلى الصف الثاني مباشرة، دون دراسة الصف الأول، وكان الفضل في ذلك بالدرجة الأولى للوالدة.
تزوّجت والدتي من أبي عام 1947 م، واضطرت لأن تتأقلم مع أوضاع مادية صعبة، ولا تقارن بالأوضاع التي كانت تعيشها في بيت والدها ، إذ أن والدي رحمه الله كان من متوسطي الحال أو ربما كان أقرب لأن يكون من فقراء العشيرة وكادحيها ، فانتقلت من بيت العزّ والجاه والبحبوحة ومن بيت يعجّ بالخدم والحشم، إلى بيت متواضع فقير في مقتنياته لرجل ( أبي ) تيتّم قبل أن يكمل ثمانية شهور من العمر.
سرعان ما تأقلمت الوالدة مع وضعها الجديد، مما أكسبها محبة واحترام جميع أقاربنا وأهل حيّنا من فقراء يعبد وكادحيها. ومن شدة تأقلمها مع الوضع الجديد ، أصبحت تشعر أن هذا هو عالمها الحقيقي ، دون بهرجة أو تصنّع لوجاهة ليست في حاجة لها.
ومما أذكره من ذكريات ما زالت تعمر بها ذاكرتي ، كيف أنها عندما زارتني في التوقيف عام 1963 م ، وكنت مزقوفا لبضع ساعات بسبب مظاهرات حدثت في ( يعبد ) ودوري في إخراج طلبة الصف السادس من الصف للمشاركة في المظاهرة ، كيف أنها زارتني وشدّت من أزري وشجّعتني مما جعل ساعات التوقيف تمرّ عليّ وكأنها لحظات معدودة.
لاحقا، وربما بالمرحلة الإعدادية بدأت أفهم سرّ زيارات الوالد المتكررة لمدينة جنين ونابلس، إذ أنه كانت تلتقي ببعض الناشطات النسويات مثل السيدتين ( تودّد عبد الهادي وعصام عبد الهادي ) وغيرهما من سيدات المجتمع الفلسطيني ، وفيما بعد استطاعت الوالدة أن تنشيء ما يشبه التجمّع النسائي لسيّدات يعبد مرتبطا بطريقة ما بالحراك النسوي في جنين ونابلس.
كانت رحمها الله سيدة بيت من الطراز الأول ، مدبّرة بطريقة أدهشت كل من عرفها، سيّما وأنّ الناس تعلم عن الأوضاع المادية المتواضعة للوالد عليه الرحمة، ولكنها كانت قادرة دائما على توفير كل ما يلزمني وإخوتي من أساسيات خصوصا بما يتعلق بلوازم الدراسة.
وبعد، فالحديث عن المرحومة الوالدة الحاجّة آمنة النجيب يطول ، فلكلّ يوم من حياتها قصّة عاشتها وعشناها ، نحن أبناؤها معها.
… وللحديث بقية إنشاء الله …