كمنحة في خبايا محنةٍ، عرف العالم نيوزيلندا، البلد القصي في مشرق الأرض كدولةٍ وشعبٍ يقدّمان نموذجاً فريداً للعالم في موضوع التسامح الديني، وذلك بعد الحادث الإرهابي الشنيع الذي ارتكبه المجرم الإرهابي الأسترالي باستهداف المصلين المدنيين في مسجدهم، الجمعة قبل الماضي.
عملٌ إرهابيّ بشعٌ قام الإرهابي بتصويره ليبدو وكأنه لعبة فيديو عنيفة، كتلك التي يلعبها الكثيرون حول العالم، خصوصاً الأطفال والشباب، ما يعني اختلاط العالم الافتراضي بالواقعي، والتقارب الكبير بينهما، وتأثير بعضهما على البعض الآخر، وإن كان بأسوأ نموذج سلبي لمثل هذا التقارب.
الموقف النيوزيلندي السياسي والشعبي موقفٌ يجب أن يقف له العالم إكباراً وإجلالاً، كلما تعمّق المتابع في التفاصيل، فإن هذا الحادث لو حدث في دولةٍ مسلمةٍ لربما لم تصل رسائل التسامح بالدرجة نفسها والنوع الذي أظهرته نيوزيلندا على مستوى الحكومة وعلى مستوى المجتمع… حدثٌ للتاريخ، وعبرةٌ للأمم، شاهدٌ صارخٌ على أن الإرهاب لا دين له ولا عرقٌ ولا طائفةٌ، وأن أي صعودٍ لخطابات التطرف وآيديولوجياته تكون له آثارٌ مدمرةٌ حين يتبناه شباب متحمسون لا تردعهم مبادئ إنسانية ولا قيمٌ اجتماعيةٌ ولا قوانين رادعةٌ، وربما كان هذا الانتقال من خطاب التطرف إلى فعل الإرهاب أقل في الدول الغربية بحكم رسوخ الثقافة الحديثة وفلسفاتها وعمق تغلغلها في أنظمة الدولة هناك.
لم تنِ كثير من الدول المسلمة في محاربة خطابات التطرف وجماعاته وتنظيماته وتياراته، ولكنها مهمةٌ لا يمكن أن تنجزها دولةٌ لوحدها، بل يجب أن يجتمع عليها المجتمع الدولي بأسره، وأكبر إعاقة لبناء مثل هذا التوجه الدولي هو الدول المسلمة الداعمة للأصولية والإرهاب، وعلى رأسها إيران وتركيا وقطر، وكذلك تخاذل العديد من الدول الغربية عن اتخاذ أي موقفٍ تجاه منظمات وجمعيات ومراكز جماعة «الإخوان المسلمين» وجماعات الإسلام السياسي هناك.
شهد القرن الماضي حركاتٍ ومنظماتٍ إرهابيةً حكمت القارة، وكادت تغير تاريخ العالم أجمع، كالنازية والفاشية والبلشفية، انطلاقاً من فلسفاتٍ وخطابات وآيديولوجياتٍ شديدة التطرف، ومن حظ البشرية أنها هُزمت في الحرب العالمية الثانية، ومن بعد في الحرب الباردة، وكعادة التاريخ الذي تخرج من رحم معاناته فلسفاتٌ وخطابات وشعاراتٌ تتبنّى التطرف، وإن بشكل مغاير، وصورة مختلفة، وهو ما جرى مع تأسيس جماعة «الإخوان المسلمين»، وانتشار التطرف الإسلامي والإرهاب.
الذي يدفع نحو هذا التحليل هو أن لكل فعلٍ ردة فعلٍ، مساوية له في المقدار معاكسة له في الاتجاه، كما هي قاعدة نيوتن المعروفة، وإن كانت قوانين الفيزياء لا تنطبق على الاجتماع البشري، فإن هذا السياق ينبئ بردّات فعلٍ من قبل الإرهابيين من المسلمين، وإن نسبة عمليات الإرهاب التي يرتكبها إرهابيون غربيون أو عنصريون بيض هي أقل بكثير مما يفعله إرهابيون مسلمون في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ البشرية.
بسبب هذه الحقيقة الواقعية نجد أن جهود العديد من الدول العربية والإسلامية أكبر بكثير مما تفعله الدول الغربية في هذا المجال، وذلك بحكم الواقع والحاجة وطبيعة المرحلة؛ فالدول العربية تتقدمها السعودية والإمارات والبحرين ومصر صنّفت جماعة «الإخوان المسلمين» جماعةً إرهابيةً، وبالتالي فهي استهدفت منبع الإرهاب وأصل التطرف وقاعدة التعصب، وألحقت بها بعض جماعات الإسلام السياسي ورموزه في مسعى عملي للقضاء على الإرهاب من جذوره، ولكن العديد من دول الغرب لم تصنع شيئاً يُذكر في هذا السياق.
ومع كل التغنّي بما صنعته الدولة النيوزيلندية وشعبها، وهو تغنٍّ بما يستحق الإشادة والثناء دون شكٍ، فإن العديد من الرموز والتيارات المنتسبة للإسلام السياسي لا تستطيع أن تدعو للموقف نفسه لو كانت العملية بالعكس، بمعنى أنه لو أن إرهابياً مسلماً استهدف كنيسةً أو دار عبادةٍ لغير المسلمين لما استطاع كثيرٌ من هؤلاء إدانته بنفس ما صنعته نيوزيلندا سياسياً وشعبياً، وربما اكتفى كثيرون بإدانة عامةٍ لا تسمن ولا تغني من جوعٍ.
تفاعل خطابات الإسلام السياسي ورموزه مع الأحداث الإرهابية التي ترتكبها تنظيمات العنف الديني المسلمة كان لا يخلو قطّ من التذكير بأن هذا العمل الإرهابي المعيّن كان نتيجة لسياسات هذه الدولة الغربية أو تلك، أو أنه بسبب إسرائيل أو روسيا أو أميركا، بحسب المرحلة التاريخية، والشواهد معروفة، ولن يتغير هذا في المستقبل، لأن الخطابات نفسها لم تتغير، وهذا ليس تنبؤاً ولكنه قراءة واقعية لا أقل ولا أكثر.
مشاركة رئيسة وزراء نيوزيلندا والشعب النيوزيلندي في صلاة الجمعة الماضية مع المسلمين في نيوزيلندا حدثٌ تاريخي بكل المقاييس في رسالته الكبرى وفي تفاصيله العظيمة، فلم يشهد التاريخ المعاصر مثل هذا الموقف الحاسم والقوي والمباشر من قبل دولةٍ تجاه أقليةٍ تعرّضت للأذى والإرهاب، وقد حرصت رئيسة الوزراء على إعلان موقفها ومخاطبة شعبها ومسلميه على وجه الخصوص بكل سياسات الدعم والمؤازرة، إلى درجة إنكار اسم القاتل وتجاهله، والتركيز على ضحاياه.
خطاب التسامح في العالم الإسلامي لم يزل أضعف من خطابات التطرف والكراهية، هذه حقيقة يجب الاعتراف بها من أجل معالجتها، ومن أجل الاعتراف بما تقطعه بعض الدول العربية من نجاحاتٍ ضمن هذا التوجه، فالسعودية استطاعت ضرب خطابات التطرف بشكلٍ قوي وفعّالٍ، في سياساتٍ غيرت وستغير المشهد نحو المستقبل والتسامح، والإمارات أعلنت هذا العام عاماً للتسامح، ومصر والبحرين تسعيان بالاتجاه نفسه والغاية ذاتها.
الدليل الأوضح على هذا هو أنه بمجرد حدوث الفوضى والاضطرابات في أي بلدٍ عربي لا تطغى على السطح إلا جماعات الإرهاب الديني وجماعات الإسلام السياسي، في العراق وسوريا ولبنان ومصر وتونس وليبيا واليمن، ويمكن رصد هذا في الجمهوريات المنتفضة إبان ما كان يُعرف بالربيع العربي المشؤوم وإلى اليوم.
من المؤسف الاعتراف بأن جماعات الكراهية وخطابات التطرف لم تزل سائدةً في العالمين العربي والإسلامي، وأن مهمة مواجهتها مهمةٌ جليلةٌ، وهي مهمةٌ تحتاج إلى صبرٍ وأناةٍ، وخططٍ محكمةٍ واستراتيجيات ثابتةٍ، وطول نفسٍ يكون أكيد المفعول وراسخ الهدف والغاية.
أخيراً، فنيوزيلندا قدمت نموذجاً مبهراً للعالم في التسامح والتعايش، وفي صرامة مواجهة الإرهاب، وحصدت تأييد العالم، ولم تأبه لبعض المزايدات الكيدية من تركيا التي مثلت شذوذاً عن هذا السياق، ولم تلبث أن تراجعت، كما تفعل دائماً.
الشرق الأوسط