الحبيب الأسود يكتب:
من عبدالعزيز إلى سلمان: ليبيا في قلب السعودية
الأيام القادمة ستكون حبلى بالمفاجآت المهمة التي ستبشر بحل الأزمة الليبية. استقبال الرياض الأربعاء الماضي المشير خليفة حفتر القائد العام للجيش الوطني الليبي ومحادثاته مع الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي العهد محمد بن سلمان، تصب في هذا الاتجاه، خصوصا وأن هذين اللقاءين جاءا قبل زيارة الملك سلمان إلى تونس، إحدى أكثر الدول المؤثرة في المسار الليبي، ومشاركته في القمة العربية التي ستنعقد الأحد 31 مارس الحالي، وستكون مسبوقة السبت، باجتماع رباعي حول ليبيا يشارك فيه كل من الأمين العام للأمم المتحدة والأمين العام للجامعة العربية ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي ورئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، وبحضور المبعوث الأممي المنشغل هذه الأيام بالإعداد للملتقي الوطني الجامع الذي ستحتضنه مدينة غدامس من 14 إلى 16 أبريل القادم.
كانت المملكة العربية السعودية دائما صاحبة موقف داعم للحل السلمي في ليبيا، ولم يعرف عنها أن تدخلت لفائدة طرف على حساب آخر، ولكنها تدعم مؤسسات الدولة وتقف إلى جانب الأغلبية الساحقة من الليبيين، وهي الأغلبية التي ترفض الإرهاب والتشدد، وتؤمن بقيم الوسطية والاعتدال، وتناهض المتاجرة بالدين أو الانخراط في أيّ تحالفات مضرة بالأمن القومي العربي. ولدى المملكة تأثير بالغ في داخل ليبيا من خلال علاقاتها الوطيدة مع أطراف فاعلة في المشهد بفعل مؤثرات قوتها الناعمة، وكذلك من خلال إيمان الشعب الليبي بأن السعودية لا يمكن أن تكون طامعة في ثرواته، ولا ساعية إلى تنصيب هذا الطرف أو ذاك في السلطة لخدمة أجنداتها كما تفعل قطر أو تركيا مثلا، وإنما ترى في استقرار ليبيا استقرارا لشمال أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء وحوض المتوسط، وتحصينا للأمن القومي العربي من المؤامرات الإقليمية والدولية التي تحاك ضده، وإنصافا للشعب الليبي المظلوم الذي تربطه بالشعب السعودي علاقات تاريخية حضارية وطيدة، حتى يكادا يكونان من أكثر شعوب المنطقة تقاربا وتلاقيا، وحتى إن اغلب المكونات الاجتماعية الليبية لا تزال تفخر بجذورها الضاربة في جزيرة العرب.
كان مجلس الملك المؤسس يضم ليبيين ساهموا بدور مهم في بناء الدولة السعودية الحديثة، من بينهم الزعيم السياسي بشير السعداوي الذي عمل على الوساطة بين الملك عبدالعزيز والإمام يحيى حميدالدين العاهل اليمني سنة 1934 لإنهاء الحرب بينهما، ومن بعدها عُين مستشارا للملك عبدالعزيز آل سعود في العام 1937، ولازم الملك في مقابلته للرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، وركب معه على ظهر السفينة الأميركية في مياه البحيرات المرة سنة 1945، ثم مع ونستون تشرشل ووزير خارجيته أنتوني إيدن، ثم رافقه إلى مصر في مؤتمر رؤساء وملوك العرب في مايو 1946 ثم اعتذر عن الاستمرار عن وظيفته كمستشار عندما كان برفقة الملك سعود بن عبدالعزيز الذي كان في زيارة إلى مصر، وكان مستشاره الشخصي بعد أبيه، ليعود إلى طرابلس من أجل إقناع أبناء بلده من الليبيين وحثهم على توحيد صفوف القوى والأحزاب السياسية وخاصة الطرابلسية، وذلك بالالتفاف حول مبادئ الاستقلال والوحدة الوطنية والإمارة السنوسية، مدركا بأن القضية تفتقر إلى قيادة موحدة وصوت واحد، وهي من الثوابت التي تعلمها من الملك عبدالعزيز، فبالوحدة تكون القوة وبالقيادة الواحدة تبنى الدول وتتحقق طموحات الشعوب.
هناك شخصية ليبية أخرى أثرت في تاريخ المملكة، وهو خالد القرقني الذي كان أحد أبرز قادة الجيش العثماني والمقاومين للاحتلال الإيطالي لبلاده. وبعد هزيمة العثمانيين في ليبيا رحل إلى إسطنبول، ثم انتقل إلى جدة تاجرا، ورآه الملك عبدالعزيز، فأعجب به، فسأله كم تربح تجارتك في العام؟ فقال: كذا، فقال الملك: أضاعفه لك وتعمل عندي. فأصبح عضوا في مجلسه الاستشاري حيث عهد إليه الإشراف على السياسة الخارجية للمملكة وأرسله على رأس بعثة إلى اليمن لإنهاء الخلاف مع إمام اليمن عام 1932. وفي هذه الرحلة كتب تقريره عن بلاد عسير. كما كان رسوله إلى عدد من زعماء العالم، وعندما نشبت الحرب في فلسطين أواخر الأربعينات كان مبعوثه لمؤازرة الفلسطينيين وإمداد المجاهدين بالسلاح.
يذكر كذلك محمد طارق الطرابلسي الملقب بطارق الأفريقي أو النمر الأسود أو الذي كان يحمل رتبة زعيم في الجيش العثماني السابق. ثم كان أول من أسس أركان حرب لجيش الملك عبدالعزيز ثم ترأسها برتبة لواء، وشارك بدور رئيس في تشكيل الجيش السعودي، وفي تدريب الألوية العسكرية وإعادة فتح المدارس العسكرية كما ساهم في تشكيل الفرقة الأولى للفرسان وكان وراء توحيد الزي العسكري للجيش السعودي واستبدال الغترة والعقال بالطاقية العسكرية، ويعود له سنّ النظام العسكري للجيش السعودي.
ويكفي أن نقف عند مآثر السعدواي والقرقني والطرابلسي لندرك عمق وأهمية الحضور الذي كان الليبيون يحظون به لدى الملك عبدالعزيز، وهو ما وطد العلاقات لاحقا بين البلدين، وقد استمر قادة المملكة في إبداء الكثير من التعاطف مع الشعب الليبي حتى في ظل الخلافات السياسية مع النظام السابق، حيث يحسب للرياض أنها لم تشارك في أيّ محاولة للإطاحة به، بما في ذلك أحداث 2011، وذلك انطلاقا من قناعة قادتها بعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وقد كان للمملكة دور مهم في حل أزمة لوكربي في العام 1999 من خلال المفاوضات السرية بين طرابلس وواشنطن التي قادها الأمير بندر بن سلطان سفير السعودية آنذاك في الولايات المتحدة.
واليوم تقف المملكة بكل ثقلها لحل الأزمة الليبية ولكن دون تجاوز للمبادرات الدولية، وهي ترى أن استمرار الأزمة لا يستهدف الليبيين فقط، وإنما له تأثيرات سلبية على دول الجوار والمنطقة، كما تنظر إلى أن الحل لا يكون إلا بدعم المؤسسات والتصدي للإرهاب، وإعطاء العامل الاجتماعي الدور المهم الذي يليق به. وليس خافيا أن الرياض تسند المؤسسة الأمنية والعسكرية على الأقل من الناحية السياسية، كما تدفع نحو المصالحة الوطنية، وتسعى بكل جهودها إلى حماية ليبيا من كل محاولات التلاعب بمصيرها، وإلى كف أذى بعض القوى الإقليمية التي لا تزال تطمح إلى تقرير مصير البلاد بدلا عن أهلها.
من عبدالعزيز إلى سلمان، تتواصل علاقات الأشقاء السعوديين والليبيين عميقة ووطيدة، وسيكون لها أثر بالغ في حل الأزمة الليبية، وهو حلّ لن يتأخر كثيرا، وستظهر بشائره خلال الأيام القليلة القادمة بفضل جهود سلمان وأنصار الخير والسلام من حلفاء العزم والحزم.